انتظار الفرج
النهج الأمثل في البناء والتكامل
سماحة الخطيب الشيخ عبد الحميد المهاجر/ دمشق: السيدة زينب عليها السلام
جاء في الحديث (أفضل أعمال أُمتي انتظار الفرج)(١)
يا لروعة هذا الحديث! إنه يقول: أفضل الأعمال الانتظار، فأوضح لنا أن الانتظار عمل, وليس ركوداً ولا جموداً.
الانتظار معناه الرفض الكامل لكلّ ألوان الظلم في الأرض, الحكم الظالم الطاغوتي.. وذلك أنك إذا رضيت بالوضع الراهن للأمة الإسلامية لم تُعدّ منتظراً للإمام, وإنّما المنتظِر له هو الرافض لكل أنواع الظلم والاستعباد, ولذلك جاء في الحديث عَن أهل البيت عليهم السلام: (إن المنتظر لأَمرنا كالمتشحّط بدمه في سبيل الله) أجل.. إنه يلبس الكفن دائماً لأنه رافض للظلم ورافض للجور ورافض للاحتكار ورافض للاستعمار ورافض للحكّام الخونة ورافض للمجتمع الجبان الرازح تحت أقدام الحاكم الظالم, إن الانتظار هو الرفض الشامل لكل الظالمين في الارض, والالتصاق الكامل بكل المحرومين والمعذّبين في الارض, والامام المهدي عليه السلام يتطلّع بشوق بالغ إلى اليوم الذي يستطيع فيه أن يمدّ يده لتخليص البشرية من عذابها الطويل!. والايمان بالمهدي المنتظر عليه السلام , ليس لقتل الوقت وجمع الأموال والسلوة.. وإنّما هو مصدر عطاء وقوة, لأن الايمان بالإمام المهدي عليه السلام إيمان عميق يرفض كل أنواع الظلم والجور في كل بقاع العالم.
وهو مصدر قوة ودفع لأنه يرشح الأمل في القلوب، ويجعلك ترى النور وأنت في أحلك ساعات الظلام... فهو انتصار النور على الظلام, وانتصار جحافل الحق على فلول الباطل, والمهدي لم يكن فكرة ننتظر ولادتها, وإنّما هو واقع نعيشه ونحسّه بوجداننا وأعماقنا وشعورنا, وهو إنسان يعيش بيننا بلحمه ودمه, يشهد آلام المحرومين ويسمع أنين المعذّبين. وحتى نرى الموضوع واضحاً شديد اللمعان,أنقل اليكم النقاط التالية:
١ _ ليس الانتظار جلوساً في الهواء الطلق للتفرّج على مسرح الحياة وما يجري فيها من المكاره على أهلها دون الدخول في صراعاتها الحادة وتياراتها الساخنة, فمن دون التعرّض لتيارات الحياة العنيفة اللافحة لا يتم بناء الإنسان, لا في العقل ولا في الجسم.. ومن دون الوقوف بوجه العصر _عصر الظلم والحرمان وإلغاء الإنسان_ لا يستطيع الواحد منا أن يكون من المنتظرين لقدوم الإمام الغائب. وبكلمة أوضح: من دون المشاركة الفعلية في آلام الاخرين والعمل على خلاصهم من الأغلال التي في أعناقهم وإطلاق أيديهم من القيود, لا يمكن أن تتحقق أهداف الانتظار, إذ أن الانتظار لا يعني نزهة مسلّية نقضيها في لعبة التزلج فوق الجليد _ كما يفعل بعض حكّام المسلمين في منتجعاتهم المخملية_ بينما تجري تصفيات بشعة للمسلمين في مناطق كثيرة من العالم, وبينما الشعوب الاسلامية مطحونة, منهوكة, متعبة بفعل الحديد والنار والفقر والحرمان التي تلقفهم من كل مكان وصوب. فنحن نعرف أن الفلاّح الذي ينتظر ثمر الزرع يوم الحصاد, لا بد أن يكون قد قام _من قبلُ_ بحرث الارض ورشّ البذور وسقيها بالماء الفرات.. وفي غير هذه الحالة يصير الانتظار نوعاً من الترف السخيف الذي لا معنى له ولا طعم. وهل يصير الإنسان طبيباً حاذقاً بمجرد الانتظار دون الدخول في كلية الطب والانقطاع الكامل إلى الدراسة ليلاً نهاراً؟ بالطبع لا. ومن ناحية أخرى فإن الذي يأخذ الجانب السلبي من الانتظار, بمعنى من يجعل انتظار المهدي ذريعة للركود والجمود, يكون أشبه بمن يجعل ولده في قارب ويُلقي به في عرض البحر دون أن يُعلّمه السباحة.. وذلك أن الدنيا إنّما تجري وفق القوانين والأسرار التي أودعها الله سبحانه في هذا الكون الواسع, ومَن لا يأخذ بالأسباب يسقط ويذوب.
٢ _ ليس صحيحاً أن موجة العنف والفساد التي تغطي العالم كلما تصاعدت حدّتها أعطت الضوء الأخضر لظهور المهدي عليه السلام . إن من الخطأ الشائع لدى البعض هو الاعتقاد بأن العمل على تقويض الفساد يؤدي إلى تأخير ظهور الإمام القائم, وأن انحسار موجة العنف يسبّب إبعاد الإمام المهدي عليه السلام عن الساحة إلى أمد طويل! إن هذا اللون الباهت من التفكير, معناه أن نعطّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وأن نترك الشعوب المستضعفة ترزح تحت وطأة الظلم, وبالتالي نلقي الحبل على الغارب دون أن نقوم بأي عمل إصلاحي, ودون أن نحرّك ساكناً!! وماذا يعني ذلك؟ إنه يعني _بصراحة_ إلغاء القرآن, ونسف الإسلام من الجذور, وإلا فكيف يتم إيمان الواحد منّا بلا عمل ولا شعور بمسؤولية نحو الآخرين؟ إن هناك قسماً من الناس يفضل الخمول على النشاط, ويؤثر القعود والجلوس في البيوت على الكفاح والجهاد ضد الطغاة والظالمين, وهذا هو _كما يعتقد البعض_ أفضل طريق لتعجيل ظهور الإمام المهدي عجل تعالى فرجه!
(وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).(٢)
فإلى أولئك القابعين تحت منخفضات الحرارة وكثافة الجليد الفكري أسوق حديثي التالي:
أ _ في القرآن الكريم إشارة واضحة إلى أن فكرة الإمام المهدي المنتظر عليه السلام إنما تشكل مرحلة واحدة من مراحل المقابلة المسلّحة بين أنصار الحق من جهة وأنصار الباطل, وهذا يعني _ببساطة_ أن هناك فئات مظلومة في مقابل فئات ظالمة, وأنه يخرج لإنصاف المظلوم من ظالمه.
وإذا عرفنا ذلك, أدركنا عمق القضية التي طرحها الحديث الشريف: (يملأ الارض قسطاً وعدلاً, بعدما ملئت ظلماً وجور) إذ أنه لم يقل (وكفر) بل قال: (ظلماً وجور).على أن هذا الحديث يضعنا على مقربة من جوهر الموضوع، وذلك أنه يفسّر نفسه بنفسه، إذ أنه صريح في الاشارة إلى وجود فئة مظلومة وفئة ظالمة، كما أنه يؤكد حتمية انتصار المحرومين والمستضعفين في العالم من كلّ الشعوب وكافة الألوان.
من خلال ذلك يبدو واضحاً، أن ظهور الإمام المهدي لا يعني _ بأي شكل _ أن يتحول كل إنسان إلى مفسد وظالم، بل يعني أن هناك أرضية صالحة لرجال مؤمنين عاملين، أشدّاء على الظالمين، رحماء على المستضعفين. يضاف إلى كل ما تقدم أن الاعتقاد بالقائم المنتظر عليه السلام يشكّل أضخم رصيد من التفاؤل والأمل في قلوب الناس جميعاً.. إذ أنه إنتصار الحق على الباطل، والانتصار لا يتحقق الا بأهله الذين وعدهم الله سبحانه في القرآن الكريم، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَْرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً).(٣)
وفي نظرة واحدة، ندرك أن الآية الكريمة حملت بشائر الانتصار الى المؤمنين العاملين، وليس إلى غيرهم.
فالمؤمنون الذين يعملون الصالحات هم وحدهم المبشّرون بالنصر، وذلك أن الغلبة، والنجاح، والانتصار تخص المؤمنين فقط.. تخص أهل الشجاعة والإقدام.. أهل البسالة والرجولة.. تخصّ أهل التقوى والإيمان.. وليس لها علاقة بالقابعين بالجبن والخوف.
ب _ وهنا تجدر الاشارة الى أن قسماً كبيراً من الروايات والأحاديث التي تدور في رحاب قضية الامام المهدي عليه السلام تتحدث عن قيام دولة أهل الحق قبل ظهور القائم، حتّى أن الشيخ الصدوق ينقل حديثاً في هذا المضمار عن الإمام أبي عبد الله جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام يقول فيه: إن ظهور المهدي لا يتحقق حتّى يشقى مَن شقي، ويسعد من سعد، بمعنى أن ظهور القائم المنتظر لا يتحقق إلا عندما يصل الظالم الشقي ذروة الظلم وأقصى درجات الشقاء، بينما المؤمن يكون قد بلغ قمة السعادة في العمل من أجل عبادة الله وخلاص الآخرين.
على أن الروايات تتحدث _ بهذا الشأن _ عن ظهور الرايات السود من المشرق، وعن نهضة الرجل اليماني التي تمهّد لظهور الإمام المهدي عليه السلام .
ومن المؤكد أنّ تلكم الحركات والانتفاضات لا تنمو في الهواء، وإنما لا بدّ لها من أرضية صالحة صلبة يمكن الوقوف عليها والانطلاق منها إلى الهدف.
ج _ حين نعرف وظيفة العلماء، ندرك _ على الفور _ المفهوم الصحيح لموضوع الانتظار.
إن وظيفة العلماء تشبه _ إلى حد بعيد _ وظيفة الأنبياء.
وهذا بطل الانسانية الخالد علي أمير المؤمنين _ عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام _ يحدثنا عن وظيفة العلماء إذ يقول:
(وما أخذ الله على العلماء ألاّ يقرّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم).
إن وظيفة العلماء، _ كما يراها الإمام علي عليه السلام _ تتلخص في إعطاء الناس حرياتهم، وفكّ الأغلال من أعناقهم، وإطلاق أيديهم من القيود.. ولا يحصل ذلك من دون عمل، فالعمل وحده هو القادر على إعطاء الناس حقوقهم المغتصبة.
ولو أننا عرفنا قيمة هذا المنهج الربّاني ومن ثم طبّقناه على أنفسنا وأجريناه في المجتمع، لما سقطت البلاد الاسلامية بأيدي حفنة من الخونة والارهابيين، ولما سقطت خيراتنا بأيدي شرذمة بغيضة من الظالمين.
ورُبّ سائل يسألك: كيف ينشأ الظالمون؟
إنّ الحضارات الغابرة وقواعد التاريخ وأصول علم الاجتماع، بالاضافة إلى التجارب التي مرت بها الأمم عبر العصور.. هذه مجتمعة تؤكّد لنا بالأرقام أن الظلم إنما ينشأ في المجتمعات التي يغيب عن آفاقها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أجل..
إن الحكام الطغاة ينشأون _ عادة _ في أجواء يكون فيها الصالحون في خمول وكسل.. بينما المفسدون في نشاط وعمل.
وتلك حقيقة طبيعية، ونتيجة منتظرة، ليس فيها عجب ولا استغراب على الاطلاق، وتلك الحياة _ دائماً _ لمن يعمل، سواء كان ذلك العامل مؤمناً، أو يهودياً، أو حتّى ملحداً، (كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً).(٤)
هكذا شاءت إرادة الله عز وجل، وهكذا تجري الأمور في الحياة في كل زمان ومكان.
وحتى لا تختلط المفاهيم في رؤوسنا، فنتصور أن النصر ينزل من السماء على طبق من فضة، فقد كتب أهل البيت عليهم السلام مناهج تكشف عن وظيفة العلماء من جهة، وتضع أيدينا على وظيفة الجماهير من جهة ثانية.
ففي الجانب الأول يقول الإمام أبو محمّد الحسن العسكري عليه السلام: ألا إن الفقيه _ كل الفقيه _ من أفاض على الناس خيره وأنقذهم من أعدائهم.(٥)
تأملوا جيداً كلمة الامام العسكري في وصف العالم الفقيه الجامع للشرائط، يصفه بأنه منقذ الشعوب، ومخلّص لها من أعدائها.
إن وظيفة العلماء تتلخّص في خلاص الناس من الظلم والحرمان والاستغلال والاضطهاد، تتلخص في العمل من أجل الاستقلال والحرية..
إستقلال البلاد، وحرية الأفراد، فليس من الإسلام في شيء السكوت على كظّة الظالمين، ولا سغب المظلومين.
وفي الجانب الثاني، نجد الإسلام يثير الجماهير بحرارة المسؤولية، ويعلّمهم كيف يكونون أحراراً في الدنيا.. فهو _ أي الإسلام _ يقول: (كلّكم راع، وكلّكم مسؤول عن رعيته).
ويقول أيضاً: (من أصبح ولم يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم).
وفي حديث ثالث يقول:
(مَن سمع رجلا ينادي يا للمسلمين، فلم يُجِبه فليس بمسلم) إضافة إلى مئات الأحاديث الواردة في هذا المجال.
إذن: فقد صار واضحاً أن الانتظار لا يعني الركود، ولا الجمود، وإنّما يعني تشمير الساعدين في جدّ ونشاط وعزيمة وإصرار من أجل الله سبحانه وتعالى، فقانون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يتوقف بأي حال من الأحوال.
وفي النهاية.. دعني أذكّرك بأن الانتظار لا ينمو في قلوب خاوية على عروشها من الإيمان، وإنما يزدهر في القلوب الدافئة الممتلئة إيماناً وعطاءً ومحبةً للآخرين.
الانتظار معناه التطلّع إلى غد أفضل، ومستقبل زاهرٍ مضيء.. المستقبل الأكثر عطاء وهناء.
الهوامش:
ـــــــــــــــــــــــ
(١) وافتنا المقالة الكريمة من العلاّمة الباحث سماحة الخطيب الشيخ عبد الحميد المهاجر, أرسلها للمجلّة من رحاب السيدة زينب عليها السلام في دمشق, ونحن إذ ننشر المقالة المذكورة لا يفوتنا أن نتقدّم بالشكر الجزيل لسماحة الشيخ المهاجر على لطفه, داعين له بدوام التسديد والتوفيق.
(٢) سورة الكهف: ١٠٤
(٣) سورة النور: ٥٥.
(٤) سورة الاسراء: ٢٠.
(٥) بحار الأنوار: ٢/٩.