قصة قصيرة
صاحب الشهباء
السيد محمّد على الجابري
ما ان تفوه الشيخ بكلماته حتّى إرتجف حسين وارتعدت فرائصه وعمّ فؤاده إحساس لم يدركه في عمره الا مرة واحدة.
لقد كان قبل سماعه كلمات ذلك الشيخ يستشعر في أعماق نفسه تجاهه السخط والحنق، لأنه لم يرع مقامه كزعيم من زعماء الدولة وأمير من أمرائها، ولو لا أنه كان ضيفاً عنده لرأى في آثار غضبه ما يمنعه من الجلوس معه على متكأ واحد.
أما الآن وبعد عدة كلمات نطق بها ذلك الشيخ الوقور ذو السحنة النورانية والشكل المهيب، فإن الأمر مختلف تماماً، فما ان سكن روعه وهدأت نفسه واستقرت انفاسه التي كان يلتقطها بصعوبة عند سماعه الكلمات، حتّى أصبح كالحمل الوديع وتبدد غرور المنصب وكبرياء الامارة، وعزة السلطان ليتحول الى ولد بار، بل خادم مطيع يقدم لهذا العظيم ما يقتضيه اكرام العظماء رسل الأولياء.
ولم يلبث حتّى سار بين يدي الشيخ ليوصله الى الاكداس العظيمة من الذهب البراق والفضة اللامعة التي حوتها خزانته وقلبه ينبض بالحب والرهبة ووجهه يعلن السرور والخوف، ووصل الى الكنز العظيم الذي لم يكن ليسمح لأحد من رجاله التصرف بشيء منه، وفتح الباب والتمس من الشيخ بأدب يفوق أدب العبيد مع ساداتها أن يتفضل بالولوج الى الخزانة العظيمة التي تبهر العقول وتسلب الألباب.
ودخل الشيخ ليتصرف بذلك المال العظيم كما يشاء دون أن يجرؤ أحد أن يتفوه بشيء أو ينبس ببنت شفة، ووقف حسين جانباً يرمق بطرفه سماء الخزانة العظيمة ولم يلبث أن غرق في بحر التأملات وانسلخ من دنيا المادة الى عالم الذكريات.
وتلاطمت أمواج الذكريات تنقله بين آنات الزمن الماضي والتاريخ البعيد المنصرم، دوى في ذهنه السائح في لجج الخيال صوت الأمير البويهي يأمره بالمسير إلى قم.
قم تلك المدينة الصغيرة التي تحيطها من كل جانب ألوان البساتين العامرة، وترفرف في سمائها أنواع الطيور المغردة، مدينة لا كالمدن الأخرى حيث عجنت طينة أبنائها بحب آل البيت عليهم السلام ، فأصبحت جدرانها تردد صدى عشق أهلها لآل النبوة، ينساب مع هدير مياه عيونها طهر الولاية، ويختلط بشذى ورودها عطر المودة.
مدينة لم تفتح قلبها إلا لأنوار آل علي عليه السلام ، فطال لذلك سهرها واشتد من الطغاة ايلامها.
مدينة ارتضع أهلها شموخ الحسين عليه السلام فلم يركعوا أمام زوابع الظلم وعنف الطغاة، فتراها بين الفينة والأخرى مجردة للسيف رافضة للظلم، تدوي صرخات أبنائها في السماء طالبين رفع الحيف وبسط العدل.
إيه حسين، طريقك إلى قم، إلى أناس أرهقوا السلطــان حتّــى حــار فـي كيفية اخضاعهم فأرسلك إليهم، لتروي الأرض بدمائهم وتزهق بسيفك الذي إرتوى من دماء بني الأصفر في حروب بني حمدان في بلاد الشام أرواح اشياع آل البيت عليهم السلام .
ما العمل يا ترى فهؤلاء شيعة لأهل البيت ألهبت ظهورهم سياط الظلم وأوجعت قلوبهم ضغينة الحكام فهل يخضعون لك أم لابد من قتالهم وسفك دمائهم الطاهرة.
إيه حسين، لم يقع اختيار السلطان عليك إلا لأنك الباسل في الحرب فأنت الذي أفشلت خطط الروم وهزمت عساكرهم وأنت اليوم متوجه الى أحباب أهل البيت عليهم السلام لتخضعهم بالقوة لسلطان العباسيين.
وفي غمار حديث النفس المحزن، وآلامها المتفجرة، وامتداد الطريق الجرداء وسكون ما حوله الذي فرقه دوي سنابك الخيل وأصوات الجنود المزعجة، هدر صوت أحد الجنود مشيراً إلى القائد برؤية بعض الظباء.
انتزع حسيناً من صمته ونظر الى الظبية الشاردة، فاندفع وراءها فركضت الظبية أمامه وهو يطاردها مبهوراً بجمال قفزاتها ورشاقة قوامها حتّى غاب بعيداً عن أصحابه ولم يعد يسمع لهم صوتاً ولا يرى لهم غباراً، والظبية الشاردة تركض بين يديه حتّى خفيت عنه في نهر جف ماؤه وقد إنتشرت على طرفيه الأشجار الخضراء لتلبسهما حلة سندسية تخلب الألباب وتسحر النواظر. لم يدرِ حسين أين هو ولم يعرف أين توجهت الظبية والنهر الطويل لا تبدو له نهاية وكلما سار فيه ازداد اتساعاً وازداد جمالاً يسلب الاختيار ويشل التفكير ويجبر من دخله على مواصلة السير إلى أمام وأمام..
وفيما هو غارق في دوامة التفكير يقلب ذكريات السنين الماضية وتتجلى أمام عينيه صور أهل قم الذين قهروا من جاء قبله من الولاة، وكيف كان في حيرة من أمره لو قرر أشاوس أهل البلدة الهانئة بحب آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خوض حرب معه. أيقاتلهم في طاعة السلطان؟ أم ينهزم تاركاً بطولاته الخالدة وشجاعته النادرة وخططه العسكرية العظيمة وراء ظهره؟ ويعودُ وقد لطخ ذلك المجد بالهزيمة أمام أبناء قرية صغيرة؟ فهو أمام تلك الصور التي استعرضها ذهنه المذهول استيقض من تلك التأملات على صوت الدنانير الذهبية الصفراء والدراهم الفضية وما حوته الخزانة من المجوهرات واللآلي وما يحار فيه الناظر، فالشيخ ذو السحنة الهادئة أخذ يقسمها ويأخذ خمسها، إيه أيها الشيخ فأنت رسول ذلك الفارس البهي، لله در ذلك النهر كيف غير أحوال ذلك البطل الذي لا يشق له غبار وجرت من مقلتيه دمعة شوق وزفرة ألم، وتنفس الصعداء ليعود إلى عالم الخيال، ومشاهد الحب والجمال، الحلة السندسية لذلك النهر الذي لم يعد يستطيع أن يحدد سعته وطوله، وفيما كانت عيناه تبحثان في أطراف ذلك النهر عن الظبية الشاردة وفرسه تعدو حيث شاءت، ظهر فجأة أمامه فارس ملثم، فارس لا كالفرسان، شامخ كالجبل المهيب متعمم بعمامة خز خضراء لونها أبهى من كل لون أخضر وقعت عليه عيناه وقد انتعل خفين حمراوين، صوته أعذب من النسيم، يأخذ بمجامع القلوب، وبريق عينيه كسبحات أشعة الشمس وضوء القمر، وله على هذا الجمال هيبة تفت في عضد الشجاع، وتقهر صلابة الأشاوس، وتربك بلاغة الفصحاء، قالها عذبةً ندية: يا حسين!! كان وقعها عليه ـ وهو قائد الأمير ـ شديداً!!
كانت عليه وهو الأمير قائد الجيوش شديدة، فكيف لمثل هذا الفارس الذي امتطى فرسه الشهباء المتناسقة القد، الخلابة المنظر، البادية النشاط والظاهرة القوة، ان يناديه باسمه مجرداً ولم يخاطبه بألفاظ التعظيم والامارة، ولكن ما العمل فهيبته أربكته وقد تسلط عليه حتّى أنه لم يعد قادراً على إخفاء ارتباكه فظهر على فرائصه الارتعاد ولم يملك الا أن قال: ما تريد؟
فهدر صوته كالرعد القاصف معاتباً ومحاسباً ومحذراً ومهدداً: كم تزري على الناحية؟ ولِمَ تمنع أصحابي من خمس مالك؟
إيه أيها الشيخ البهي الطلعة فأنت رسول ذلك الفارس ذي العينين الوقادتين والصوت الملائكي وصاحب السر الإلهي، أنت رسول الناحية المقدسة التي كانت الشكوك تراودني في وجوده وقد ظهر إلي لينتزعني من هاوية الضلالة والانحراف، كم كان لطف الله بي عظيماً، فقد كاد التشكيك أن يوردني نار جهنم لو لا هذا اللطف الظاهر، حنانيك ابا جعفر العمري، كم كنت نائياً عنك جاهلاً لقدرك وأنت من مولاي في هذا الموضع العظيم.
لله در قم وأهلها، قوم من أعرق العرب نسباً ألجأهم جور الظلمة من بني أمية والعباس للثورات فكانت دماؤهم الزكية تروي الأرض فتشمخ بها شجرة الولاء لآل البيت عليهم السلام ، وكم ظهرت له بشائر السعد فيها فإن الناحية المقدسة أخبره أن أهلها لن يقاتلوه، وها هم قد فعلوا وعرف سرّ ثوراتهم حيث كان الظلمة يأتونهم بالولاة الجائرين الذين تجري في دمائهم حمى الطائفية المرة فيضطهدون الناس بسلطانهم، وتأبى كرامة الشيعي ان يستذل ويهان.
لله در قم وأهلها، ولله درك يا أبا جعفر كم انت عظيم المقام عند أهل البيت عليهم السلام ماذا لو اتفق أن أسعد مرة أخرى بلقاء صاحب الشهباء.
كان يراود خاطره هذا الرجاء وبان على وجهه الوجوم واستشعر قلبه حزن الحرمان من شرف اللقاء فسالت على وجنتيه دمعة الوجد وانطلقت من صدره زفرة الأسى.