مدّعو المهدوية
مهدوية علي محمد الشيرازي والطريق إلى الباب
د. حسين سامي شير علي/كلية الفقه/ جامعة الكوفة
تكاد مصادر التاريخ الحديث تُجمع إن البابية والبهائية نشأت وترعرعت في ظل سياسات استعمارية دولية تستهـدف ضـرب الإسـلام عـن طـريق زرع الـبلبلة الفكرية في مفاهيمه ابتداءً بتحريف القرآن الكريم وتزييف الحديث الشريف، وانتهاءً بالتشكيك في عقائده الصحيحة السامية؛ ومنها عقيدة المهدي المنتظر.
ولكن هذه المصادر تختلف في تشخيص الجهات الداعمة لهذا الفكر والتي قامت باحتضان ورعاية شخصياته ورجاله، بحسب تفسيرها للأهداف الرامية إلى هذا الدعم وذلك الاحتضان بين الاتحاد السوفيتي المنحل، والصهيونية العالمية، والدولة الامريكية.
١ ـ قادة الفكر البابي والبهائي:
في الأول من محرم سنة ١٢٣٥ هـ الموافق ٢٠ ت١/ ١٨١٩م، وُلد للميرزا رضا البزاز الشيرازي ـ وزوجته خديجة ـ مولود سمياه (علي محمد) وقد اختلف في نسب هذا المولود، شبّ (علي محمد) في شيراز ـ وسافر في حداثته إلى كربلاء لتلقي العلوم الدينية، وتتلمذ بعض الوقت على يد كاظم الرشتي مؤسس (الكشفية) المتوفى بكربلاء عام ١٢٥٦هـ. وبعد وفاة أستاذه الرشتي دعا لنفسه كمرجع فلم يتبعه الا عدد قليل من الايرانيين الساكنين في كربلاء يومئذ وذلك لغرابة أطواره.
وبعد إخفاقه في جذب الناس اليه عاد إلى ايران، وفيها ادعى الركنية،وأخيراً البابية، واجتهد هو وأتباعه الجدد في نشر مزاعمه سبع سنين ـ وقد حفلت هذه السنوات بالكثير من الأحداث ومنها قدومه إلى اصفهان واحتماؤه بحاكمها (منوجهر خان) معتمد الدولة، وخلالها لقب بـ (حضرة الأعلى).
وقد أثار كل هذا حفيظة المخلصين من العلماء الذين شـكوه إلـى ولاة الأمـر فـي فـارس فـكـان أن نفي وسجن في تبريز باذربيجان، وجراء ذلك جنح أتباعه إلى الفوضى والعصيان، وقد أحضر من سجنه، وناظره العلماء والفقهاء بمحضر من الشاه ناصر الدين(١) وأعيد إلى السجن ثم أحضر مرة ثانية وقُتل بفتوى الفقهاء وبأمر من الأمير ميرزا تقي خان رمياً بالرصاص في تبريز هو وأحد أتباعه، وطرحت جثتاهما على حافة خندق، وكان ذلك في صبيحة الاثنين الموافق ٢٧ شعبان سنة ١٢٦٥ هـ حسب السجلات الرسمية و٢٨ شعبان سنة ١٢٦٦ هـ على زعم مريديه، وفي اليوم التالي لم يجدوهما، وقيل ان الكلاب أكلتهما، وتروي البابية أساطير في مقتله ودفنه وتزعم سرقة جثته.(٢)
خلّف الباب في دعوته الميرزا حسين علي بن الميرزا عباس المدعو ميرزا بزرك (أي الميرزا الكبير) المولود في الثاني والعشرين من محرم سنة ١٢٣٣ هـ الموافق ١٢/ ١١/ ١٨١٧م، في بلدة نور من ضواحي مازندران بايران وإليها نُسب(٣) ـ وقد نشط الميرزا حسين علي بالدعوة إلى الباب قبل اختلافه مع الأخير وادعائه أنه الموعود الحقيقي وأنه المهدي المنتظر والمسيح المنتظر وأنّ أستاذه الباب لم يكن إلاّ مبشراً به وداعياً إليه، وبذلك ضرب بشريعة الباب عرض الجدار، ونسخ كتاب (البيان)، وأبطل كثيراً من تشريعات الباب،وأخيراً زَعَمَ أن شريعته لا تتغير إلا بعد ألف سنة، وأنه خالق الباب، وأنه واحد لا شريك له!! وقد سمى نفسه البهاء أو بهاء الله، وبه عرف أتباعه، وهؤلاء يعتقدون بألوهيته ويعلقون في بيوتهم قطعة كتب عليها (بهاء الله البهي الأبهى).
ولتماديه في الضلالة نفي وبعض أتباعه إلى بغداد، وبها اختفى فترة ومنها إلى استانبول وأدرنة، وكان وقتها السلطان عبد العزيز والصدر الأعظم أمين عالي.
وقد خاطب الملوك والسلاطين داعياً إياهم إلى بدعه، ومنهم ملك النمسا والمجر (فرانسوا زوسف) وملك بروسيا (ولهام غليوم الأول) ورؤساء جمهوريات البلاد الأمريكية وملوكها، وكذلك راسل دار الخلافة العثمانية والشاه ناصر الدين والعلامة شهاب الدين الآلوسي مفتي بغداد آنذاك وصاحب تفسير روح المعاني للغرض نفسه، وأنذر فرنسا وألمانيا في خطبه.
وقد مات في ٢٨ مايو ١٨٨٨ م وقد أقام له أتباعه قبراً جوار عكا في فلسطين المحتلة.
وتولى قيادة البهائية من بعده ابنه الأكبر عباس المسمى عندهم بحسن الله الأعظم المتوفى في ٢٨ تشرين الثاني ١٩٢١م.
ولم يكن لعباس هذا ولد ذكر ليقوم مقامه، فأوصى لابن بنته شوقي أفندي ابن الميرزا هادي الشيرازي، ويسمى ولي أمر الله وسمى هو نفسه (الغصن الممتاز) و(شوقي الرباني) وقد توفي سنة ١٩٥٧م ودفن بمقبرة الانكليز في لندن وله مزار على جبل الكرمل في حيفا.
فتن بدعوة الباب والبهاء في العراق وايران رعاع كثيرون من الرجال والنساء، ومنهم قرة العين هند بنت ملا صالح القزويني المولودة سنة ١٨١٧م وكانت تكنى بأم سلمى خانم ولجمالها سميت (زرين تاج) أي التاج الذهبي، وقد لقّبها الرشتي بقرة العين ونعتها أتباعها بـ (الطاهرة).
وكانت قد تزوجت وهي صغيرة من الملا محمد بن الملا محمد تقي (ابن عمها) وإمام الجمعة في مدينتها، فأولدها ولدين وبنتاً لم يعترف أحد منهم بديانة أمه، وقد فجرت وتبرجت كثيراً حتى عثر عليها تستحم مع الرجال، وحرضت على قتل عمها في الجامع، وبعد انتشار فضائحها في كل مكان، اتهمها زوجها بالخيانة وطعنها علناً في شرفها.
ومن تلك الفضائح نورد ثلاثة نماذج:
الأول: ان فريق العزاب من أصحابها كانوا يحومون حولها كالفراشة التي تحوم حول السراج ويدعونها (شمس الضحى) وأحياناً (بدر الدجى) وقد كشفت ذات يوم وهي على المنبر في كربلاء عن صدرها وخاطبت المستمعين قائلة: لم تذهبون لتقبيل الحجر الأسود في الكعبة؟ تعالوا والثموا الحجر الأبيض وأومأت إلى صدرها.(٤)
الثاني: كانت تنظم مجلساً تتحدث فيه من وراء الستارة وذات يوم أوعزت لخادمتها أن ترفع الستارة أو تقطع الحبل الحامل لها أثناء محاضرتها، وكانت قد تزينت بأجمل الملابس، فبدت في غاية الجمال، وفعلاً قامت الخادمة بما أمرت به فكان أن وقع الحاضرون في هيامها وانجذبوا اليها.(٥)
الثالث: سألتها بعض النسوة عن رأيها في الطلاق والزواج فأجابت: إني لا أرى مانعاً للمرأة أيضاً أن تختار لنفسها تسعة أزواج في آن واحد.(٦)
٢ ـ أفكاره وعقائده:
من الواضح أن البابية والبهائية تدرجت شيئاً فشيئاً للوصول إلى أهداف تعمل على نسخ الدين الاسلامي مبتدئة بادعاء المهدوية، فأصحابها يزعمون أنها طريقة لإصلاح الدين الاسلامي الحنيف عن طريق تصحيح العقائد النظرية والتطورات الروحانية المتعلقة بوجود الله وحقيقة النفس، ولهذا حصر الباب دعوته بالشيعة الامامية على حين أصبحت فيما بعد (البهائية) نزعة الاصلاحية في (البابية)، واستهدفت نسخ الشريعة الاسلامية فاستخرج البهاء من (القرآن المجيد) ومن (بيان الباب علي محمد) ومن الوحي الذي ادعى نزوله عليه فكرة دين عالمي جديد يوحّد الجنس البشري ويصهره في بوتقة واحدة، مخاطباً ملوك العالم من سجنه في عكا وحثهم على اخماد نيران الحروب وتخفيف الضرائب على الرعية وبين لهم الطريق في ذلك بإنشاء جمعية للأمم تحكم في المنازعات الدولية وتدعو إلى مبدأ الوحدة في كل شيء، وحدة الدين، وحدة اللغة ووحدة الأنواع ووحدة الوطن وجميع هذه المفاهيم إنما هي تطور تدريجي عن فكرة الباب علي محمد الذي كان يدعي ابتداءً أنه الواسطة للوصول إلى الإمام المنتظر، واذا به يزعم فيما بعد أنه هو المهدي المنتظر، وأن جسم المهدي اللطيف قد حلّ في جسمه المادي، وأنه يظهر الآن ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.(٧)
فبعد أن أعلن أنه الباب الذي يتوصل به إلى الإمام المستور الذي هو المصدر الأعلى لكل حقيقة وهداية، سرعان ما جال في روعه أنه أكبر من أن يكون واسطة للإمام الغائب فحسب، وأن الله قد رفعه على هذا الإمام إقتصاداً في مراحل التطور الروحي واختصاراً لمراتب الهداية، فاعتقد أن المهدي لابد من ظهوره لإصلاح الكون وتخليص الناس من الظلم والطغيان ونشر العدالة بين البشر.(٨)
وهكذا كانت فكرة المهدوية هي الأساس الذي استند اليه الباب في أصل ادعائه مستفيداً من نزوع الناس نحو تصديق فكرة المهدي التي أثبتت حوادث التاريخ انها أقرب ما يكون إلى ذلك.
وتتهم بعض المصادر الاتحاد السوفيتي (يومذاك) حول خلفية الاعداد لظهور مهدي جديد في بلاد فارس يأخذ على عاتقه إثارة البلبلة في تلك البلاد في محاولة منها للتأثير على النظام السياسي في ايران يومذاك.
تروي هذه المصادر أن جاسوساً روسياً دخل إلى ايران عام ١٨٣٤ م وبعد ذلك جاء إلى العراق وسمى نفسه الشيخ عيسى لنكراني بينما كان اسمه الحقيقي: كنياز دالكوركي وتزيّا بزي رجال الدين وحضر درس السيد كاظم الرشتي في مدينة كربلاء المقدسة، وهناك التقى بعلي محمد (الباب) وكان تلميذاً عند الرشتي.
وكان علي محمد يشرب الحشيشة، واستطاع الجاسوس أن يكوّن بينه وبين علي محمد علاقة صداقة وثيقة.
وفي ليلة من الليالي وبينما شرب علي محمد الحشيشة ـ كعادته ـ انتهز الجاسوس الروسي الفرصة ـ وخاطبه ـ بكل خضوع واحترام ـ قائلاً: يا صاحب الزمان ترحّم عليّ... أنت صاحب الزمان قطعاً.
وبالرغم من أن علي محمد كان قد فقد بعض مشاعره بسبب الحشيشة المخدرة إلا أنه رفض هذا الخطاب وحاول أن يدفع عن نفسه هذه النسبة، ولكن الجاسوس الروسي ألحّ عليه بذلك وجعل يلقّنه ويكرّر عليه القول بأنه هو الإمام المهدي.
وكلما شرب علي محمد الحشيشة انتهز الجاسوس الفرصة للتلقين والايحاء وكان يسأله أسئلة طفيفة ويجيب علي محمد باجابات سخيفة، فيبدي الجاسوس إعجابه بتلك الاجابات.
وفي يوم من الأيام أحضر له الجاسوس زجاجة خمر اشتراها من بغداد وقدمه للباب، فلم يمتنع من شربها، ولمّا سلبت الخمرة عقله ورشده، شرع الجاسوس بتلقينه بأنه هو الإمام المهدي صاحب الزمان.
وبدأ علي محمد يصدق مقالة الجاسوس ويعتقد بأنه هو الإمام المهدي، ولكنه خاف من إظهار الأمر ولم يصرّح به.. الا أن الجاسوس كان يشجعه على ذلك ويعده بالمال الكثير.
وأخيراً سافر علي محمد من كربلاء المقدسة إلى البصرة ثم إلى بوشهر، وهناك ادعى أنه باب الإمام المهدي، أي أنه نائب خاص للإمام عليه السلام، ولكن الجاسوس لم يرض بهذا الادعاء بل كتب اليه: أنت صاحب الأمر وإمام العصر.
ثم جعل الجاسوس ينشر في كربلاء بأن علي محمد هو صاحب الزمان وقد ظهر في بوشهر والناس بين مصدق ومكذب، فالذين كانوا يعرفون علي محمد الحشاش الخمار كانوا يضحكون من هذه الاشاعات، وبعض الحمقى والبسطاء كانوا يصدقون الخبر.(٩)
على أن هذه التفاصيل، قد تكون نسبة كثيرة منها منافية للواقع خاصة وأنها مستقاة من مذكرات جاسوس يبالغ كثيراً في سرد رواية عن نشأة البابية، الا أن ذلك يؤكد في نفس الوقت إن المهدوية كانت الادعاء الأول لعلي محمد الباب المفترض.
وتعزو مصادر أخرى استفحال البابية والبهائية بواسطة الدعم اليهودي ومن قبله الاستعمار الغربي الذي احتضنهم بعد أن أسهم في وضع اللبنات لهم وبناء هياكلهم، فأمدهم بأسباب الديمومة، وكان يرى في طواغيتهم ودعاتهم نعم الصنائع والدمى، وأخذ يرفدهم بين الحين والآخر بوجوه جديدة عندما يشعر أنهم بُلوا واستهلكوا، وساعدهم في الانتشار ووضع هو والماسونية واليهودية كامل خبراتهم تحت تصرف الحركة، ثم كثروا فكان لهم مجامع روحانية بلغت (١٢) مجمعاً وتتفرع منها محافل مركزية وفرعية قارب عددها التسعين، وهذا الاخطبوط امتد إلى مختلف انحاء الوطن العربي والهند وباكستان والبنغال وبورما وايران وتركيا واليابان، وكذلك يشمل سويسرا وايطاليا وبريطانيا والمانيا والنمسا والاتحاد السوفيتي وامريكا الوسطى والجنوبية والولايات المتحدة وكذا استراليا ونيوزلندا وغيرها، ولهم في بعض هذه الدول جرائد ومجلات تنطق باسمهم وباللغات الانكليزية والفرنسية واليابانية، واخذوا يعقدون مؤتمرات فصلية وسنوية لمتابعة نشاطهم.
ولم تكن سمومهم بخافية عن النابهين والمخلصين من العرب والمسلمين علماء ومفكرين وصحفيين، فانبروا مفندين أباطيلهم داحضين دعاواهم، مسفهين آراءهم، فانكشفت لبوسهم ووضحت ألاعيبهم، وكان ماكتبوه من كتب ومقالات ثروة لا غنى عنها لمن أراد الوقوف على حقيقتهم، فلهؤلاء الغيارى الثناء على جميل صنيعهم، ولهم من الله تعالى الجزاء الأوفى.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــ
(١) بعد المناظرة معه أعلن الباب توبته بمرأى ومسمع من جمع كبير من العلماء وأرباب الدولة وكتب بخط يده الوثيقة التي عرفت بـ (توبة نامة) وقد أودعت النسخة الأصلية منها بعد ذلك في مكتبة مجلس النواب الايراني، ونشر صورتها المستشرق البريطاني أدورد براون استاذ اللغات الشرقية في جامعة كمبرج في كتابه عن البابية، ومن ثم نشرت المجلة الايرانية (نوردانش) صورة هذه الوثيقة سنة ١٣٢٥هـ وكذلك نشر صورتها نيكو في كتابه: ٢/ ٧٨ ـ ٨٠ ظ مدينة الحسين: ٤/ ١١٢ ولكن توبته لم تدم طويلاً.
(٢) ظ: الماسونية والبهائية: ٧١.
(٣) تقع شمالي ايران قرب بحر قزوين وكان قد منحها ملوك القاجار لاجداده الذين نسبوا اليها.
(٤) مدينة الحسين: ٢٥١.
(٥) المصدر نفسه.
(٦) محمد هاشم الخراساني، منتخب التواريخ: ٥٨١.
(٧) عبد الرزاق الحسين، البابيون والبهائيون في التاريخ: ١٦ ـ ٢٢.
(٨) سعد محمد حسن، المهدية في الإسلام: ٢٤٨.
(٩) ظ: محمد كاظم القزويني، الإمام المهدي من المهد إلى الظهور: ٤٥٣ ـ ٤٥٥ عن مذكرات دالكوركي ـ الجاسوس الروسي في البلاد الإسلامية: ٦١ـ ٨٥ تعريب السيد أحمد الموسوي القالي.