العدد: ٨/ محرم الحرام / ١٤٢٨ه

المقالات قصة قصيرة/ في طريق الحج

القسم القسم: العدد: ٨/ محرم الحرام / ١٤٢٨هـ الشخص الكاتب: السيد محمد علي الجابري تاريخ الإضافة تاريخ الإضافة: ٢٠١٣/٠٩/١٤ المشاهدات المشاهدات: ٥٤٠٣ التعليقات التعليقات: ٠

في طريق الحج

السيد محمد علي الجابري

في مدينة تحيطها الجبال الشاهقة من كل صوب، تتناغم فيها أغاريد الطيور ورفرفة أجنحتها مع خرير الماء الصافي المتدفق من العيون المنسابة من القمم والسفوح والتي تروي بنميرها العذب تلك المروج السندسية الخضراء التي تمتزج مع جمال لوحة الكون، يخالطها نسيمات هادئة تداعب الأشجار والحشائش الخضراء لتجعلها تهتز نشوى على أنغام الطبيعة، فتكتمل بها لوحة الابداع الإلهي الذي يبهر الألباب ويسحر العيون ويحرك القلب ليشدو بتراتيل الشكر لنعمة الخالق المبدع الذي هيأ من هذه الصخور الجرداء والأرض الميتة أسباب الحياة، لتُرسمَ عليها أبهى الصور وأروع المناظر ويزينها جمالاً تراتيل وتسبيح تلك الكائنات السابحة في ارجاء تلك الجنينة الخضراء.
في هذا الجو الأخاذ الذي يهب القلب الطمأنينة والسكون هام راشد في ذكريات الماضي البعيد حيث تعلق قلبه بحج البيت الحرام، ذلك الموضع القدسي الذي بناه إبراهيم الخليل عليه السلام، وكان الفداء له ولده اسماعيل، إلى تلك الأرض التي نبع فيها فيض الماء تحت أقدام الذبيح، الأرض التي امتزجت فيها إرادة الله بأحزان الخليل حيث أودع في الأرض القفر أعزّ الخلق عليه وأحبهم إليه.
مرحى لهذه البقعة المباركة بأرضها القاحلة وجبالها الجرداء؛ كيف شاء الله تعالى أن يجعلها مهبط الوحي ومعدن الخير والمنطلق لتوحيده في الأرض.مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام
الى هذه البقعة المباركة التي وجدت في وادٍ غير ذي زرع، جاشت مشاعر راشد وهام قلبه لزيارة البيت العتيق مهوى قلوب المسلمين وكعبة انظار الموحدين.
إنطلق موكب الحاج من همدان، بلد الثلوج والغابات والأمطار والمياه العذبة يطوي الفيافي والقفار، ويقطع المسافات الشاسعة في قافلة مراكبها الابل التي اعتادت السير وتحمل العطش والجوع لمسافات بعيدة.
وصل ركب العاشقين الى ديار العشق الإلهي، حيث الأرض التي ابتدأ منها خطاب الوحي ونزول جبرئيل ليضوع شذى عطر الإسلام في أرجاء المعمورة، وهي ذاتها الأرض التي ستنطلق منها دولة العدل الإلهي ليعم السلام والإسلام، فمنها منطلق سليل النبوة وباسط العدل والقسط والانصاف.
وامضى الحجيج في هذه الأرض المباركة أيام نسكهم وتعبدهم وهم يتذكرون الأيام التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيها، ويتحسسون رفيف أجنحة الملائكة وترنيمة الوحي، يضعون شفاههم تارة على الحجر الأسود حيث موضع تقبيل شفتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم له وتارة يؤدون الصلاة خلف مقام إبراهيم ويطوفون حول البيت العتيق ويسعون بين الصفا والمروة وكل مناسك الحج التي تمثلوا بها خطى الرسول الكريم عن رب العالمين.
وبعد انقضاء تلك الأيام الخوالد ساروا الى مدينة الرسول مدينة الجهاد والفِداء فتذكروا مواقف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الجهادية وترسموا خطاه وعاشوا لحظات قدسية من صبره وتضحيته والخيرة من صحابته من أجل نشر راية الإسلام.
وهكذا أقفل الركب راجعاً يحمل معه أجمل الذكريات وأصدق المشاعر وهو يودع تلك الربوع بدموع الحب والتقديس ومشاعر الولاء والرغبة في العودة كل عام...
وهكذا خفيت تلك الديار وغابت من وراء الأفق ولا يزال القلب يتلفت نحوها بشوق وتنظر إليها العيون بلهفة، وكانت القافلة تسير وتسير فأحس راشد أنها تسير ببطء فأثر فيه غرور الشباب وعنفوان القوة فتقدم أصحابه بمراحل محدّثا نفسه أن يسبقهم فان تعب جلس للراحة حتى تلحقه القافلة، وفعل ذلك مرات وهو لا يخشى أن يضل الطريق وما حاجته للقافلة إلا للماء والغذاء.
وفي هذا السير الحثيث أحس بالتعب والاجهاد فحدث نفسه أن يخلد الى النوم فاذا ما وصلت القافلة التحق بها، فتوسد رمال الصحراء الناعمة والتحف بالسماء الزرقاء الصافية وأوى الى ظل صخرة كبيرة ليتقي حرارة الشمس وراح يغط في نوم عميق.
مضت الساعات الباقية من النهار وحل ظلام الليل وتزينت السماء بالنجوم المتلألئة وهب النسيم العليل الذي يحمل معه حبيبات الرمل الذهبية التي أخفت حركة القافلة حيث مرت قريباً منه دون أن يحس بها، وطوت حركة الفلك صفحات الليل البهيم ليفتح راشد عينيه على صفحات الأرض تقبلها أشعة الشمس في صباح مشرق جميل...
نهض راشد وقد اذهله طول الفترة التي استغرقها نومه ونظر هنا وهناك فلم يبصر أيّ أثر للقافلة فأيقن أن القوم قد سبقوه.
وَجَم راشد وتوقف جامداً كأن وجهه واحدة من الصخور المحيطة به في هذه الصحراء القاحلة، فوجود شخص بلا ماء ولا طعام فيها يعني الموت المحقق، فحينها فكر إن كان سيصادف في طريقه ما يسد رمقه ويروي ضمأه، أم أن مصيره الموت الزؤام في أرض قد لا يجد فيها من يدفن رفاته إن لم يكن قد وقع فريسة للحيوانات.
صمم راشد على ضبط النفس والتوكل على الله والتسليم لأمره مهما كانت النتائج فانه ميت إلا أن يجعل الله له من أمره مخرجا، فسار وكله تسليم لله سبحانه ورجاء به. وقد أخذت منه هواجس الوحشة وقله الزاد والحاجة الى الماء مأخذها فهو يرى الموت ماثلاً أمام عينيه، فراحت تعرض أمام عينيه صور عائلته وهم يبكون عند عودة الحجيج بدونه، وصور الابتسامات التي يلقاه بها أهله واصدقاؤه وقد تحولت الى وجوم فأصبح نهبأ لتلك الخيالات وفريسة لتلك الهواجس مع شدة عطشه وجوعه، فتوجه الى بارئه يطلب رحمته ورعايته وهو يراها رأي العين في النملة التي تحمل رزقها إلى بيتها والى الطيور الهائمة في تلك الصحاري التي يكفل لها ربها الماء والطعام فتتوهج في نفسه بوارق الأمل ويستشعر الطمأنينة.
وبينما هو كذلك وقد أعياه التعب وآلمه الجوع وأضره العطش، وازداد توهج ضوء الشمس وحرارتها اللاهبة، إذ لامست وجهه نسمة باردة حملت معها عطراً ندياً فواحاً برائحة المسك غير المعهود في تلك المواضع الجرداء الموحشة.
أفاق راشد من ذهوله فاذا هو في واحة خضراء لم يسمع أن حدثه أحد من الحجيج بها، ورفع بصره ليرى أمام عينيه قصراً تحوطه الحدائق الغناء، فأيقن بالفرج وان الرحمة الإلهية قد أدركته فقصد ذلك القصر بكل آماله وآلامه.
نقلت راشد قدماه ولا تزال غشاوة العطش تغطي عينيه وهو لا يكاد يصدق ما رأى، ودارت عدة تساؤلات في مخيلته عن هذا القصر حيث لم يسمع به من قبل إذ لم يحدث به أحد، ثم طافت صور خيالية عنه. لعله واحة في وسط الصحراء أو أنه رحمة إلهية حلت لإنقاذه ـ وهو القادر على كل شيء.
بين هذه التساؤلات والأفكار لاحت أمام عينيه حركة إنسانين يحرسان الباب فتقدم نحوها وألقى إليهما السلام فردا عليه بأحسن منه.
اقتربت الحقيقة من مخيلته فها هو يسمع حقاً رد التحية من إنسانين حقيقيين بل أن صوتهما كان من أعذب الأصوات، وقد امتزج بهما يقين صادق بخلاصه من الموت الذي ينتظره.
لم تعد رجلاه تحملانه بسبب الفرحة الغامرة التي انتابته مع ما كان يحمله من التعب والعطش والجوع والارهاق، لقد كان تعاملهما معه رقيقاً لينا انساه آلامه فهدأت نفسه وارتوت شفاهه الذابلة وعادت إليه السكينة والهدوء.
وما هي إلا لحظات حتى جاءه الأمر بالدخول الى القصر الشامخ الذي كانت جدرانه تفصح عن جودة الاضاءة وحسن التصميم وجمال العمارة، وزاد على جمال المحل حسن الضيافة وأدب المعاملة ورقة الأسلوب، فكان يساير راشد منذ دخوله خادم يدله على الطريق بأدب جم وابتسامة هادئة، حتى وصل الى الموضع الأهم والمحل العالي الذي لا يؤذن إلا للخواص بالدخول إليه والتشرف بالمثول أمام صاحبه والوقوف بين يديه، فرفع الخادم الستارة وأمره بالدخول.
دخل راشد من حيث أمره الخادم وهو يسير ببطء وترقب الى غرفة من غرف القصر، شعر أن دقات قلبه تزداد ونبضاته تسرع وما ان رفع بصره شاهد في ذلك المكان البهي والمحل القدسي فتىً كأن وجهه فلقه قمر مكتمل يشع منه نور أزهر يهب النفوس السكينة والوقار والخشوع والرهبة يمتزج فيه الخوف والرجاء والرهبة بالأمل، وقد تدلى من أعلى الغرفة سيف صقيل تكاد تمس ذبالته رأس ذلك الفتى النوري.
تكلم الفتى بنبرة ملائكية تطفح عذوبة وحلاوة سائلاً راشد بالقول: اتعرفني من أنا؟
من أين لراشد الذي أذهله المنظر وادهشه المكان أن يعرف الذي يكلمه، لقد شغله النظر الى ذلك الوجه القدسي عن الجواب، وألجمته مهابة الفتى وحسن كلامه عن التكلم ببنت شفة فأجاب بالنفي.
فأجابه الفتى: بأنه الذي ادخره الله لاحياء المعالم والسنن، وانه المذخور لاقامة الأمت والعوج، وانه الذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجوراً.
لم يتمالك راشد نفسه ـ وهو يسمع هذه الكلمات ـ ولم تعد قدماه تطيقان حمله فهذا هو مهدي آل محمد يكلمه، وهذا الذي بشّر به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وتقول الشيعة به معه وجهاً لوجه، فلم يشعر إلا وهو ساقط على الأرض ساجداً شكراً لله تعالى على عظيم المنة وجميل الإحسان، فالله سبحانه أنقذه من الموت المحقق ومنّ عليه بالتشرف بلقاء خليفة الله في الأرض الحامل لارث النبوة واعباء الرسالة.
غردت البلابل وهدلت الحمائم وزقزقت العصافير، فانتشلت راشد من ذهوله وتساؤلاته وايقظته من غفوة الذكريات وكأنها اللحظات القليلة التي قطعها من قصر الإمام إلى مدينة همدان...

التقييم التقييم:
  ٠ / ٠.٠
 التعليقات
لا توجد تعليقات.

الإسم: *
الدولة:
البريد الإلكتروني:
النص: *
 مقال مختار:
 أكثر المقالات زيارةً:
المقالات دراسات/ حقيقة الإمام المهدي عليه السلام في روايات ومصادر العامة من وسائل التقريب ونبذ الطائفية (المشاهدات: ٩٠٣,٣٩٠) المقالات دراسات/ دراسة عن توقيت ظهور الإمام المهدي المنتظر (المشاهدات: ٦٠,٩٦٧) المقالات دراسات/ منزلة الإمام المهدي عليه السلام عند آبائه المعصومين عليهم السلام (المشاهدات: ٤٢,٠٠٨) المقالات دراسات/ الإمام المهدي في الشعر العربي (المشاهدات: ٤٠,٤١٨) المقالات دراسات/ البصرة في ظهور الامام عليه السلام (المشاهدات: ٣٩,٨٤٠) المقالات دراسات/ التوظيف السياسي لفكرة المهدي في العهود الاسلامية الاولى (المشاهدات: ٣٨,٢٤١) المقالات دراسات/ أبعاد من الحكمة الإلهية لغيبة الإمام المهدي عليه السلام (المشاهدات: ٣٦,٠٨٧) المقالات دراسات/ الصيحة والنداء السماوي (المشاهدات: ٣٤,٢٤٤) المقالات دراسات/ أفكار في سلاح الإمام المهدي عليه السلام عند الظهور (المشاهدات: ٣٢,٤٨٩) المقالات دراسات/ الرايات الصفر في الميزان (المشاهدات: ٣٠,٦٩٢)
 أكثر المقالات تقييماً:
المقالات دراسات/ دراسة عن توقيت ظهور الإمام المهدي المنتظر (التقييمات: ٥.٠ / ٦) المقالات دراسات/ دراسة القضايا المهدوية (١) (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات دراسات/ الرايات الصفر في الميزان (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات دراسات/ كارثة المسيح الدجال صحابي مسلم مجاهد (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات دراسات/ دراسة حول رؤية الامام المهدي عليه السلام (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات الأدب المهدوي/ أناشيد للصغار هذا هو اليومُ الأغَر (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات دراسات/ مدّعو المهدوية مهدي السلفية التكفيرية وحركة جهيمان العتيبي (التقييمات: ٥.٠ / ٢) المقالات شبهات/ في معرفة الإمام ذاتاً (التقييمات: ٥.٠ / ١) المقالات دراسات/ الطابع السلمي لحركة الإمام المهدي عليه السلام (التقييمات: ٥.٠ / ١) المقالات دراسات/ إمكان رؤية الإمام المهدي عليه السلام في الغيبة الكبرى (التقييمات: ٥.٠ / ١)
 لتحميل أعداد المجلة (pdf):

 البحث:

 

Specialized Studies Foundation of Imam Al-Mahdi (A-S) © 2016