المهدي عليه السلام ...
منقذ البشرية
ولد الامام المهدي (سلام الله عليه) في دار أبيه الحسن العسكري عليه السلام في مدينة سامراء آخر ليلة الجمعة الخامس عشر من شعبان، وهي من الليالي المباركة التي يستحب إحياؤها بالعبادة وصوم نهارها طبقاً لروايات شريفة مروية في الصحاح مثل سنن ابن ماجة وسنن الترمذي وغيرهما من كتب السنة إضافة إلى ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وكانت سنة ولادته على أشهر الروايات في عام (٢٥٥هـ)، ويستفاد من الروايات الواردة بشأن كيفية ولادته عليه السلام أن والده الإمام العسكري عليـه السلام أحـاط الولادة بالكثير من السرية والخفاء، فهي تذكر أن الإمام العسكري عليه السلام قد طلب من عمته السيدة حكيمة بنت الامام الجواد عليه السلام أن تبقى في داره ليلة الخامس عشر من شعبان وأخبرها بانه سيولد فيهاإبنه وحجة الله في أرضه فسألته عن أُمه فأخبرها أنها نرجس فذهبت اليها وفحصتها فلم تجد أثراً للحمل فعادت إلى الامام وأخبرته بذلك فابتسم الامام وبيّن لها أن مثلها مثل أُم موسى عليها السلام التي لم يظهر حملها ولم يعلم به أحد إلى وقت ولادتها لأن فرعون كان يتعقب اولاد بني اسرائيل خشية من ظهور موسى المبشر به فيذبح أبناءهم ويستحي نساءهم، وهذا الامر جرى مع الامام المهدي عليه السلام ايضاً، لأن السلطات العباسية كانت ترصد ولادته، ويستفاد من نصوص الروايات أن وقت الولادة كان قبيل الفجر وواضح أن لهذا التوقيت أهمية خاصة في إخفاء الولادة لأَن عيون السلطة عادةً تغط في نومٍ عميق، واخبرت الكثير من الاحاديث الشريفة بأن ولادة المهدي عليه السلام ستحاط بالخفاء والسرية ونسبت الاخفاء الى الله تبارك وتعالى وشبهت بعضها إخفاء ولادته باخفاء ولادة موسى عليه السلام وبعضـها بولادة ابراهيم عليه السلام وبيّنت علة ذلك الإخفـاء بحفظه عليه السلام حتى يؤدي رسالته ونستعرض هنا نموذجين:أولاً: روى الشيخ الصدوق في إكمال الدين والخزاز في كفاية الاثر مسنداً عن الامام الحسن بن علي عليه السلام ضمن حديث قال (أما علمتم أنه ما منّا إلا وتقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلّي عيسى بن مريم خلفه؟ وأن الله عزوجل يخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلاّ يكون لاحد في عنقه بيعة إذا خرج ذلك التاسع من ولد أخي الحسين عليه السلام ابن سيدة النساء يطيل الله عمره في غيبته ثم يظهر بقدرته...).
ثانياً: وروي عن الامام الحسين عليه السلام انه قال (في التاسع من ولدي سنّة من يوسف وسنّة من موسى بن عمران وهو قائمنا أهل البيت يصلح الله أمره في ليلة واحدة) (كمال الدين).
وتشير الاحاديث الشريفة المتقدمة إلى علة إخفاء ولادته عليه السلام وهي العلة نفسها التي أوجبت إخفاء ولادة نبي الله موسى عليه السلام ، أي حفظ الوليد من سطوة الجبارين ومساعيهم لقتله إتماماً لحجة الله تبارك وتعالى على عبادة ورعاية له، لكي يقوم بدوره الالهي المرتقب في انقاذ بني اسرائيل والصدع بالديانة التوحيدية ومواجهة الجبروت الفرعوني بالنسبة لموسى الكليم عليه السلام ، وهكذا إنقاذ البشرية جمعاء وإنهاء الظلم والجور وإقامة القسط والعدل وإظهار الاسلام على الدين كله بيد المهدي المنتظر عليه السلام .
عاش الامام المهدي عليه السلام في ظل حياة والده تقريباً خمس سنوات في ظل أوضاع إرهابية صعبة كانت تواجه الامام العسكري عليه السلام فهي على درجة كبيرة من الخطورة والحساسية فكان عليه أن يخفي أمر الولادة من أعين السلطات العباسية بالكامل والحيلولة دون اهتدائهم إلى وجوده وولادته ومكانه ذلك حفظاً للوليد من مساعي الإبادة العباسية المتربصة به ولذلك لاحظنا في خبر الولادة حرص الامام على إخفائها كما نلاحظ أوامره المشددة لكل من أطلعه على خبر الولادة من أرحامه وخواص شيعته بكتمان الخبر بالكامل فهو يقول مثلاً لأحمد بن إسحاق (ولد لنا مولود فليكن عندك مستوراً ومن جميع الناس مكتوماً) (كمال الدين ص ٤٣٤)
ومن جهة ثانية كان عليه الى جانب ذلك وفي ظل تلك الأوضاع الإرهابية وحملات التفتيش العباسية المتواصلة أن يثبت خبر ولادته عليه السلام بما لا يقبل الشك إثباتاً لوجوده ثم إمامته فكان لابد من شهود على ذلك يطلعهم على الأمر لكي ينقلوا شهاداتهم فيما بعد ويسجلها التأريخ للاجيال اللاحقة ولذلك قام الامام عليه السلام باخبار عدد من خواص شيعته بالامر (راجع كتاب كمال الدين ص٤٣١ وراجع معادن الحكمة في مكاتيب الائمة للكاشاني ج٢ ص٢٧٥). طبق ما يرويه الشيخ الصدوق في اكمال الدين والشيخ الطوسي في الغيبة فإن الامام المهدي عليه السلام قد حضر وفاة أبيه العسكري عليه السلام ونقل الشيخ الطوسي حيث قال (قال إسماعيل بن علي دخلت على أبي محمد الحسن بن علي عليه السلام في المرضة التي مات فيها وأنا عنده إذ قال لخادمه عقيد يا عقيد إغلي لي ماءً بمصطكي فاغلى له ثم جاءت به صقيل الجارية أم الخلف فلما صار القدح في يديه همّ بشر به فجعلت يده ترتعد حتى ضرب القدح ثنايا الحسن فتركه من يده وقال لعقيد (ادخل البيت فإنك ترى صبياً ساجداً فأتني به) قال أبو سهل: قال عقيد فدخلت أتحرى فاذا أنا بصبي ساجد رافع سبابته نحو السماء فسلمت عليه فأوجز في صلاته فقلت إن سيدي يأمرك بالخروج اليه اذ جاءت أمه صقيل فأخذت بيده وأخرجته إلى أبيه الحسن عليه السلام قال أبو سهل فلما مثل الصبي بين يديه سلم وإذا هو دريّ اللون وفي شعر رأسه قطط مفلج الاسنان، فلما رآه الحسن عليه السلام بكى وقال (يا سيد أهل بيته إسقني الماء فاني ذاهب إلى ربي)، وأخذ الصبي القدح المغلي بالمصطكي بيده ثم حرك شفتيه ثم سقاه، فلما شربه قال (هيئوني للصلاة) فطرح في حجره منديل فوضأه الصبي واحدة واحدة ومسح على راسه وقدميه، فقال له أبو محمد عليه السلام إبشر يا بني فأنت صاحب الزمان وأنت المهدي وأنت حجة الله على أرضه وأنت ولدي ووصي وأنا ولدتك وأنت محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبيطالب ولدك رسول الله وأنت خاتم الأئمة الطاهرين وبشّر بك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمّاك وكنّاك بذلك عهد إليّ أبي عن آبائك الطاهرين صلى الله على أهل البيت ربنا إنه حميد مجيد، ومات الحسن بن علي من وقته صلوات الله عليهم أجمعين. (راجع غيبة الطوسي ١٦٥)، تسلّم المهدي عليه السلام مهام الامامة وهو إبن خمس أو ست سنين فهو أصغر الائمة سناً عند توليه مهام الامامة وليس في ذلك غرابة في تاريخ الانبياء والرسل وائمة اهل البيت عليهم السلام فقد سبقه لذلك بعض أنبياء الله تعالى حسب نص القرآن الكريم كعيسى ويحيى كما سبقه الإمامان علي الهادي عليه السلام وقد تسلم الامامة وهو ابن ثمان سنين والامام محمد الجواد عليه السلام الذي تسلّم الإمامة وهو إبن سبع أو تسع سنين. كان من أولى المهمات التي قام بها الامام المهدي عليه السلام بُعَيْد تسلمه همام الامامة هي الصلاة على أبيه الحسن العسكري عليه السلام في داره وقبل إخراج جسده الطاهر إلى الصلاة الرسمية التي خططتها السلطات العباسية وجاءت غيبة الامام المهدي عليه السلام كإجراء تمهيدي لظهوره اقتضته الحكمة الالهية في تدبير شؤون العباد بهدف تأهيل المجتمع البشري للمهمة الاصلاحية الكبرى التي يحققها الله تبارك وتعالى على يديه عليه السلام والتي تتمثل في اظهار الاسلام على الدين كله وإقامة الدولة الاسلامية العادلة في كل الارض وتأسيس المجتمع التوحيدي الخالص الذي يعبد الله وحده لا شريك له.
ان الانحراف الذي ساد الكيان الاسلامي قد أبعده عن الدور المطلوب الذي أراده الله سبحانه له أي لكي يكون كيان خير أمة أخرجت للناس ويترسخ الانحراف الاجتماعي والاخلاقي والاقتصادي حتى أفقده أهليّة القيام بهداية المجتمع البشري نحو العدالة الاسلامية التي فقدها المسلمون أنفسهم وفقدوا معها الكثير من القيم الالهية الاصلية حتى إختفت مظاهرها وسجلت المصادر الاسلامية الكثير من الاحاديث الشريفة المروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن أئمة اهل البيت عليهم السلام التي أخبرت عن حتمية وقوع الغيبة للمهدي عليه السلام وننقل نموذجين في هذا الصدد.
أولاً: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (وجعل من صلب الحسين أئمة ليوصون بأمري ويحفظن وصيتي، التاسع منهم قائم أهل بيتي ومهدي أمتي أشبه الناس بي في شمائله وأقواله وأفعاله ليظهر بعد غيبةٍ طويلة وحيرة مضلّة فيُعلن أمر الله ويظهر دينُ الحق) (كفاية الاثر ص ١٠)
ثانيـاً: قـال الإمام علي عليه السلام (وان للغائب منا غيبتيـن إحداهما أطول من الأخرى فلا يثبت على إمامته إلا من قوي يقينه وصحت معرفته) (ينابيع المودة للحافظ الحنفي) ص ٤٢٧. والأَحاديث الشريفة بهذه المعاني كثيرة جداً متواترة من طرق اهل البيت عليهم السلام ، ونقلها العديد من حفاظ أهل السنة من مختلف مذاهبهم والكثير مروي منها بأسانيد صحيحة وهي من أوضح الأدلة على صحة غيبة الامام عليه السلام ، وكونها بامر من الله عزوجل حيث ثبت صدورها بل وتدوينها قبل وقوع الغيبة بزمن طويل، فجاءت الغيبة لها مثبتة لصحة مضامينها وصدورها من ينابيع الوحي عن علام الغيوب تبارك وتعالى حتى لو كانت مرسلة أو كان ثمة نقاش في بعض أسانيدها.
إذن لابد من إنقاذ هذا العالم الممتحن وانتشال المحرومين والمستضعفين واذا كان الأمر كذلك فسينعم العالم بالسلام وينتشر العدل بعد معاناة من الصراعات الدامية التي شهدتها الانسانية على طول تاريخها المفرّج بالدماء وستنتهي الفوضى ومعها أعاصير الفتن وتيارات المحن الهائجة التي تعصف بكل ما هو جميل وتقتلع كل خير ومن ثم تتوطد قيم المحبة والعدل والوئام وينشد الجميع هدفاً واحداً وهو العدل والسلام ومن ثم يتطلّع العالم إلى نظام واحد وهي العبودية الخالصة لله تعالى بعد ما تسود اطروحة الاصلاح التي سيقدّمها ذلك المصلح المنتظر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته