الانتظار
بين السلب والايجاب
السيد محمد القبانجي/ مدير مركز الدراسات التخصصية في الإمام المهدي عليه السلام
إنّ الانتظار وإن كان من المعاني الإسمية التي لها تحقق ووجود في عالم الذهن لكنّه في عالم الواقع الخارجي وفي حدود التحقق خارج إطار الذهن لا يمكن أن يرى الوجود بدون وجود المعاني المتعلّقة به ونعني بها (المنتظَر والمنتظِر) .
فلذا حاولنا حصر الكلام في مفهوم الانتظار على بعض النقاط من دون توسع، قدر ما تسمح به هذه الأوراق.
مما يؤسف له أن البعض منّا ـ ربّما يكون لضعف في نفسه ـ ينجرّ وراء أصحاب الشبهات الذين يحاولون بشتى الوسائل والطرق إيجاد النظرة السلبية حول مفهوم الانتظار وزرع روح التنفّر أمام هذه العقيدة الفطرية ـ فلهذا السبب نجد من هؤلاء تقسيماً لعقيدة الانتظار من غير مقسم وتنويعاً للمنتظرين من غير تنوّع، فيسّودون الكثير من الصفحات من غير واقع وراءها ولا حقيقة تعرف من خلالها.
وهؤلاء يتحدثون كثيراً عن الانتظار السلبي وآثاره ثم ينقضّون عليه في كثير من الأدلة والكلام الخالي من الواقعية، فالقاريء يتصوّر أن الانتظار أو المنتظرين على نوعين وشكلين، الاّول منهما ـ وربّما يكون الأكثر لكثرة ما كتبوا فيه ـ هو المنتظِر السلبي، ذلك الانسان الذي همّه البكاء والنوح ولا يحرك ساكناً للتغيير، يقول البعض وهو يصوّر حالة هذا النوع من المنتظرين (ظهور حالة الانفعالية البكائية في مواجهة حالات الظلم بالاستغراق في داخل المشكلة).
وهنا أقف متسائلاً متعجباً لأقول:
هل من يبكي لفراق حبيبه يكون معاباً عليه؟ أوَ مَن يحترق ألماً لغياب سيّده ومولاه لا يفهم معنى الانتظار؟ فماذا نقول عن هذه الآهات في بطون الأدعية ومضامين الأحاديث الصادرة عنهم الحاكية عن ألم اللوعة ولوعة الألم، فنجد الداعي يتحرق شوقاً إلى رؤيته والنظر إلى تلك الطلعة الرشيدة والغرّة الحميدة.
متى ترانا ونراك وقد ملأت الأرض عدلاً ...
هل من معين فأطيل معه العويل والبكاء ...
هل من جزوع فأساعد جزعه إذا خلا ...
هل قذيت عين فساعدتها عيني على القذى ...
هذه الكلمات النابعة عن قلب محترق بألم الفراق وفقدان الحبيب ...
هل كلّ ذلك يعدّ تخلفاً وفهماً سلبياً لمفهوم الانتظار؟ أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟
والنوع الثاني هو المنتظِر الواعي المنفتح الذي ساعد في تغيير المعادلة لصالح الامام الحجة.
أقول: هذا الكلام لمّا كان لا واقعية له ولا حقيقة تتمخّض عنه، كان الأجدر أن لا يُكتب فيه لأنه يعطي تصوراً وانطباعاً سلبياً عن مفهوم الانتظار، والحال أنه لا يوجد هذا التقسيم على صعيد الواقع أساساً، فنحن لم نرَ منتظِراً يحمل همّ العقيدة متخاذلاً متهاوناً، ونحن لم نر مثل (اولئك المتشائمون الذين يندبون الزمان وأهله ويقرأون العزاء على واقع المسلمين ثم يعوقون ويثبّطون الناس عن العمل).
أو كما يقول آخر (إن مشكلة هؤلاء ـ ويتحدث عن المنتظرين بالجانب السلبي حسب فهمه ـ هي أنهم استغرقوا في انتظار الشخص ولم يستغرقوا في انتظار الرسالة، فلم يلتقوا بالرسالة في حركة حياتهم فيما يمثّله انتظارها من جهد في سبيل الارتباط بها، بل التقوا بالشخص الذي سيأتي من خلال الغيب بعيداً عن إمكاناتهم وإرادتهم، فلم يكلّفوا أنفسهم عناء السير نحوه للقاء به في منتصف الطريق).
وكم كان بودّي أن يذكر هؤلاء الباحثون كاتباً واحداً من المتمسّكين بهذه العقيدة ذكر أن الانتظار يمثل ذلك المفـهوم السلبـي لكي يكون البحث عملياً أكثر مما هـو بحث نظري لا يراد منه إلا الترف العلمي من دون معالجة لمشكلة حقيقية إلا ما يتبادر في أوهام المشككين.بل زاد البعض بأن ذكر عدّة سلبيات في حياة هذا النوع من الناس، وكأنّ القضية حقيقة واقعة ولها جمهورها من الشيعة والحال أن أساس القضية لا واقع لها إلاّ في مخيلة الكاتب.
ولندع الذين يحاولون إلصاق التُّهم حول عقيدة الانتظار يتخبّطون في تخرصاتهم، ولننظر إلى تاريخ الشعوب المسلمة ولنتلمس التاريخ الشيعي منذ نشوئه وإلى يومنا هذا، فهل نجد فيه أمّة خانعة خاضعة أم أننا نجد العكس تماماً، إذ أنّ الشيعة ـ هؤلاء الذين يتمسكون بعقيدة الانتظار ـ أكثر المسلمين أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، نجدهم لا يرضون بالظلم ولا يستسلمون ولا يخنعون، فكيف تجتمع عقيدة الانتظار التي يصفها البعض بأنّها عقيدة تدعو الى الكسل والاتكال على الغير، مع ما نرى من تاريخ الشيعة المشرّف في ثوراتهم على الظلم والظالمين؟ إذ نتبين ومن خلال قراءة سريعة في التاريخ الاسلامي أن الدافع الرئيس الذي كان يحدو بهؤلاء الى الثورة والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما يحملونه من عقيدة راسخة في الانتظار، حيث تشكل هذه العقيدة عنصراً مهماً في حركة هؤلاء الاصلاحيين، بل هي عامل أساس عندهم يهدف بهم لفرض التغيير في الواقع المعاش.
فمن ثورة التوّابين إلى ثورة المختار وإلى زيد بن علي ومن بعد ولده يحيى، وهكذا يحكي لنا التاريخ عن المواقف البطولية للحسين بن علي صاحب وقعة فخ، وهكذا كانت الثورات الشيعية تترى الواحدة تلو الاخرى حتى توّجت بالثورة الإسلامية التي أطاحت بشاه ايران وإقامة حكومة إسلامية من أول أُسسها وعقائدها عقيدة الانتظار للامام الأعظم الحجة ابن الحسن عليه السلام.
ويظهر الفرق جلياً إذا نظرنا إلى هؤلاء الذين لا يتمسّكون بهذه العقيدة ولا يتعايشون معها نجدهم خانعين خاضعين الى حكام الجور يؤثرون الدنيا على الاخرة قد باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.
فوائد الانتظار
الانتظار بشكل عام ـ بعيداً عن عالم المصطلحات ـ يمثل حالة صراع مع النفس ورغباتها حيث يتجذر فيه الصبر والصلابة ضد عجلة الانسان وإسراعه:
(الانتظار دعوة الى الرفض، لا إلى الاستسلام، رفض الباطل والظلم والعبودية والذلة.
الانتظار راية المقاومة الراكزة في مواجهة كل باطل وظلم وكل ظالم).
والحديث خاص عن انتظار المهدي الموعود وفوائد هذا الانتظار فنقول:
١ ـ الانتظار في الحقيقة يمثل قضية عبادية وأمر إلهي وشرعي يجب الالتزام به من جهة، ويُثاب عليه الانسان المنتظر من جهة أخرى، إذن واحدة من أهم الفوائد التي يحصّلها المنتظر هو المثوبة والأجر العظيم في التزامه بهذه العبادة وطاعته لهذا التشريع.
٢ ـ الانتظار منبع الأمل في المستقبل: لا يمكن للانسان أن يتعايش مع الآخرين، بل أن يعيش حياته مثل أي كائن آخر في هذا الوجود إلاّ بالأمل.
فبالأمل تزهر الأوراد لتستقبل دفىء الشمس في نهار الغد.
وبالأمل تفتح صغار الطير مناقيرها عند بزوغ خيوط الفجر وتنشر أشعة الشمس ظفائرها.
وبالأمل تفتح الأرض ذراعيها لتحتضن حبّات المطر لتروي سنابل القمح صفراء ذهبية.
وبالأمل تنظر الأم لوليدها وتلقمه ثديها وتربت على ظهره، وتسهر ليلها وتحرسه نهارها.
وبالأمل يكدح الرجل ويتعلم الانسان ويرتقي مدارج الكمال.
إذن الأمل هو كل شيء في وجدان المخلوقات كافة، فلولاه لم تكن هناك حياة ولم يكن هناك ازدهار، ولولاه لم نر على شفاه الاطفال ابتسامة، ولم نسمع تغريد البلابل فوق أغصان الشجر.
ومن هنا يتبين لنا ما للانتظار من الأهمية والخطورة، فهو باعث للأمل في حياة الانسان.
بالانتظار يؤمل تغيير الواقع المليء بالظلم والاضطهاد الى غدٍ مشرق بالعدل.
بالانتظار يؤمل ازدهار الأرض بالكمال والعلم والتراحم ونبذ الحقد والضغائن.
بالانتظار يؤمل كشف الزيف والنفاق وإزالة الأقنعة عن الانتهازيين وأصحاب الأهواء والأطماع.
فالانتظار أمل يتحقق فيه (التواضع أمام الحق والتكبر على الباطل ...
هو نفي القيم الواهية والتعالي على القدرات الوهمية ...
هو إزهاق أنظمة الحكم والحكومات، وتزييف السلطات والحاكميات.
هو التمرد على الظلم والعدوان، والتمهيد لحكومة العدل والقسط ...
هو شعار المقاومة ورعشة العصيان واليقظة ...
هو دمٌ في شريان الحياة وقلبٌ في صدر التاريخ ...
هو فأس إبراهيم، عصا موسى، سيف داود، ونداء محمّد صلّى الله عليه وآله وسلم.
هو صرخة علي، دم عاشوراء، ومسيرة الإمامة ...).