أصل الاعتقاد بالامام المهدي عليه السلام
سماحة السيد محمد علي بحر العلوم/ باحث واستاذ في الحوزة العلمية
يعتبر الايمان بالامام المهدي عليه السلام من أبرز القضايا المثيرة للجدل بين الشيعة والآخرين، وهذا أمر طبيعي، فكلما اختص الانسان بفكرة معينــة وباعتقاد خاص وقلّ المشاركون له فيها كلما كثرت إشكالات الآخرين عليها حيث تكون هذه الفكرة هي المميزة له، فالإيمان بالله عز وجل ـ على سبيل المثال ـ اعتقاد يشترك به الموحّدون جميعاً وهم عدد لا يستهان به يشكل أكثر من ثلاثة أرباع البشر في يومنا هذا، إذ ان وجود الملحد يكاد يكون قليلاً إن لم يكن نادراً، ومن هنا لا نحتاج إلى كثير مؤنة في إثبات أصل وجوده ووحدانيته، لكن عندما نأتي إلى صفاته وأفعاله نحتاج إلى بحث أكثر حيث لا يشاركنا الكثير في كيفية صفاته تعالى وأفعاله، ولذا نحتاج إلى أدلة أكثر، وإذا ما تناولنا النبوة بالبحث يقل المشاركون لنا بهذا الاعتقاد ويزداد المخالفون الذي يشكّكون في نبوته ومعجزته وحياته وما يُوحى إليه، لكن مع مرور الزمن ذهبت اشكالاتهم هباء منثورا فقد حاول المستشرقون وهم آخر من حاول النيل من نبوة النبي الخاتم وتاريخه ولكنهم لما يأسوا ولم يأتوا بالأدلة الشافية، لا نرى احداً اليوم يناقش في النبوة ولا في صفات النبي الخاتم، بل بات من المسلمات التي يجب على الجميع الاعتراف بها واحترامها، وقد يشذ بين الفترة والأخرى بعض من يشذّ عن هذه الجادة ويتوجه بالاساءة اليه ومحاولة النيل من كرامة المسلمين من خلال رسومات كاريكاتورية يستهزأ بها بحامل راية السلام والأمن والاطمئنان للبشرية، ولا يهدف من تلكم المحاولات الا الإساءة إلى الإسلام وإلى خلق فتنة بين المسلمين والمسيحيين.
وكلما توغلنا بالاعتقادات الخاصة بالشيعة كلما ازداد الخلاف وكثر البحث، فمسائل الإمامة تُبحث أكثر من مسائل التوحيد والنبوة وإن كانت تستند عليهما، وما ذلك الا للقاعدة التي ذكرناها وهي ازدياد المخالفين كلّما اختصصنا بعقيدة عنهم، وشكراً لله أن سعى علماؤنا الذين صنفوا في مسائل الامامة وفرعوا الكثير من الفروع وأسسوا الكثير من القواعد وسهلوا على أتباع مدرسة أهل البيت الاستدلال واقامة البرهان الناصع على كل مسألة حتى تكون منظومتهم العقائدية محكمة متينة مترابطة.
فإذا ما رجعنا إلى أصل الاعتقاد وما هو الواجب على المؤمن الاعتقاد به هو: ان الامام الثاني عشر هو آخر أئمة أهل البيت عليهم السلام، وأنه ولد وكانت له غيبتان قصيرة دامت ما يقرب من سبعين سنة، وطويلة تمتد حتى يظهره الله عز وجل ويملأ به الأرض قسطاً وعدلاً.
هذا هو الاعتقاد العام الذي يؤمن به كل إمامي اثني عشري.
وحول هذا الأمر نلاحظ عدداً من الشبهات:
أولاً: شبهات حول الأئمة الاثني عشر:
والشبهات تارة تكون حول أصل وجود الامام وضرورته، وهذا أصل مبحوث عنه فيما يسمى بالإمامة العامة، وقد استُدل عليها بالأدلة العقلية كقاعدة اللطف، وكذلك استدل عليها بالأدلة النقلية القطعية المتعددة. وتارة أخرى يتم الحديث حول العدد وهو اثنا عشر، وهي مسألة نقلية تثبت من خلال الروايات المتعددة أيضاً.
أ ـ أثاروا شبهة على الدليل العقلي على إثبات وجود الامام وهو قاعدة اللطف؛ ومؤدّى هذه الشبهة أنه أي فائدة من وجوده وأي مصلحة وأي لطف في وجوده والناس لا تستفيد منه؟ وأي منفعة منه ولا أحد يعلم ما يقول ولا يعرف ما يقول؟ وانحاء هذه الكلمات التي يسطرونها للدلالة على عدم اللطف في نصب من هو غائب.
والجواب: عن هذه الشبهة بالاشارة
أولاً: إلى أن الدليل العقلي لا يُثبت أكثر من وجوب نصب الامام وضرورة وجوده الدائمي ما دامت الأرض.
ثانياً: أن قاعدة اللطف تعني أن كل فعل موجب لقرب المكلف من كماله المنشود، فإن الباري يحسن ويلطف تهيئته وإيجاده ويقبح عدم ايجاده. والإمام ـ كالنبي ـ وجوده لطف حيث لابد في كل عصر من إمامٍ هاد يقوم بهداية الناس وإرشاد الناس إلى ما فيه خير وسعادة النشأتين، ولو لم يبعث الله من يهديه إلى ذلك الغرض لزم أن يكون الله سبحانه ناقضاً لغرضه وهو محال.
ونلاحظ أنهم عندما أشكلوا على هذا الدليل لم يشكلوا على الصغرى والكبرى، بل قالوا ما الفائدة في غيبته؟ أي ان الدليل في أساسه تام ومتين، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يتصوروا كيفية اجتماع اللطف مع كونه غائباً. وما هي فائدة غيبته؟ وهل الغيبة تتساوى مع العدم؟ وهذه تساؤلات سوف نجيب عنها إن شاء الله تعالى في العناوين القادمة. لكن النقطة المهمة هي أن الدليل لا غبار عليه ويتم به إثبات وجود الهادي، وهذا هو المقدار المطلوب منه، فما يثبته الدليل وجوب النصب وجعلهم أدلاء عليه لطفاً ورحمة بعباده، من اهتدى بهم نجا، ومن تخلّف عنهم غرق وهلك، فالهداية هنا ليست إجبارية بل هي أمر اختياري.
ثالثاً: أن الدليل العقلي المتداول على الألسن هو قاعدة اللطف، إلا أنه غير منحصر به، وذلك لأن هذا الدليل اعتمده المتكلّمون من الإمامية، إلا أنا نجد العديد من الفلاسفة استندوا إلى أدلة فلسفية أخرى أيضاً وهي عقلية تثبت ضرورة الإمامة كبرهان العناية، وبرهان الغاية، ودليل الفطرة، وغيرها من الأدلة العقلية التي تطلب في مظانها.
ب ـ شبهات حول الروايات الدالة على أن الإمامة ضرورية، وهي طوائف من الروايات: أحدها: حديث الثقلين، وحديث من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية، وحديث أن الأرض لا تخلو من حجة، وفي بعضها من قائم لله بحجة، أو قائم بحجة الله تعالى.
فبالنسبة للحديث الأول قالوا بأن النص الثابت هو (سنّتي) وليس (عترتي)، او في الاختلاف في تحديد المراد من العترة.
وحول الحديث الثاني: أن معرفة الإمام ـ الذي يخرج الانسان من الجاهلية ـ هي المعرفة التي يحصل بها طاعة وجماعة، خلاف ما كان عليه من الجاهلية فإنهم لم تكن لهم طاعة ولا جماعة تعصمهم، والله تعالى بعث لهم
محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وهداهم به إلى الطاعة والجماعة، وهذا المنتظر لا تحصل به طاعة ولا جماعة.
وبالنسبة للحديث الأخير قالوا: إنه دليل ينقض نفسه بنفسه، اذ ما معنى كون الإمام الحجة وما الفائدة منه؟ أليس لهداية الناس وإدارة المجتمع وتنفيذ الأحكام الشرعية؟ فكيف يمكن للإمام الغائب على فرض وجوده أن يقوم بكل ذلك؟
والجواب:
أيضا نلاحظ هنا أن أصل الاعتقاد لا ينكرونه، بل الانكار متوجه إلى تعيينه ومن هو، فإنهم في قبال هذه الاحاديث إما ينكرونها مع أنها ثابتة في صحاحهم أو أنهم يحاولون تأويلها، وبدلاً من فهمها ومحاولة فهم الغيبة الفهم الصحيح نراهم يحملون على الشيعة في إيمانهم، فإننا عندما نتناول هذه الأدلة ونثبت صحتها نتوصّل إلى نتيجةٍ مفادها وجوب جعل الحجة والإمام على الأرض، وأنه من ضمن السنن الإلهية التي لا تتخلّف في هذا العالم، فالاشتباه في المصداق أو كون المصداق بكيفية خاصة لا يؤثر على تلك الأدلة وصحتها، فعندما نلاحظ دليلاً مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إني تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض) فإن هذا يعني وجود ذوات مسماة من العترة هي التي تكون عدل القرآن الكريم وهي باقية ما دامت الأرض ولا تفترق عن القرآن حتى يردا على الحوض يوم القيامة، إن وجود هذه الأدلة العامة دليل على ثبوت مذهب الإمامية.
ونضيف إلى ذلك أن آيات الإمامة الواردة في القرآن من أول آيات إمامة إبراهيم إلى الآيات العديدة الواردة في صفات عامة لأئمة الهدى لا يكون لها تفسير على مذاهب العامة، فما هي الإمامة التي أُعطيت لإبراهيم، ولماذا أعطيت له بعد أن كان نبياً، وأنه دعا الله أن تكون لبنيه من بعده، وجاء الجواب الإلهي بأن عهد الله تعالى لا يناله الظالمون، وغيرها من آيات الإمامة، فإنه لا تجد نظرية محيطة تناسب هذا المقام للإمامة سوى ما أورده أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام، أما المدارس الأخرى فترى نظرية الامامة مغيّبة عندهم، أو لا تتناسب مع تلك الأهمية التي وردت في القرآن.
ج ـ شبهات أثيرت حول العدد اثني عشر:
وهي ترتكز على ما ورد من الروايات الكثيرة على ان الأئمة إثنا عشر، فقد روى مسلم في كتاب الامارة، باب أن الناس تبع لقريش، عن جابر عن سمرة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكلمة خفيت علي، فسألت أبي: ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال: (كلهم من قريش) وروي بألسنة متعددة في مجمل كتبهم الروائية مثل مسند أحمد، والحاكم في المستدرك، والطبراني في المعجم الكبير... وقد قال بعض من لم يرزق الانصاف في فكره: لم نجد للمهدي ذكراً في هذا الحديث لا تصريحاً ولا تلويحاً، وقد صار أمر المهدي مشترك بين السنّة والشيعة، وقد سماه ابن كثير في البداية بالخليفة.. فحديث جابر ينبغي أن يُحمل على الواقع الملموس والمشاهد بالأسماع والأبصار، وذلك في حمله على حكّام المسلمين الذين كانوا في القرون الثلاثة المفضلة وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاوية ثم عبد الملك بن مروان ثم ابنه الوليد بن عبد الملك ثم سليمان بن عبد الملك ثم عمر بن عبد العزيز، ثم يزيد بن عبد الملك ثم هشام بن عبد الملك ثم يزيد بن الوليد ومن بعده إلى مروان بن محمد ثم انتقلت الإمامة إلى بني العباس ومنهم إلى المنصور ثم ابنه المهدي ثم هارون إلى من بعدهم، ومن بعد هؤلاء عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الشهيد وصلاح الدين الايوبي. ولا نقول: ان هؤلاء ليس فيهم عيوب ولا ذنوب بل قد يوجد فيهم ما يعابون به، لكن لا يلزم أن تحبط سائر عمله ماضيه ومستقبله فمتى قلنا أن الاثني عشر خليفة الذي استقام بهم الدين لن يخرجوا عن هؤلاء لم نكن آثمين بدل أن نحيل أحدهم إلى تسميته ثم نجعله خيالا غائبا).(١)
ويا لها من سخافة في التفكير واعوجاج في السليقة. إن هذا الحديث يمثل الحلقة الأخيرة في الأحاديث العامة التي تثبت أصل فكرة الإمامة، حيث أنها حصرت الإمامة إلى أن يأخذ الله العالم في اثني عشر خليفة أو إمامـاً، وهـذا العدد لم يكن من ابتكارات مذهب معين أو علماء معيّنين، بل هو نص الروايات عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهو حجة على الجميع، أما تفسير هذا الحديث وتطبيقه فقد اختلف فيه القوم اختلافا واسعاً كبيراً، وأستطيع أن أقول بضرس قاطع وحجة واضحة بينة أنه لا يوجد تفسير يقبله العقل لهذا الحديث إلا ما عليه الإمامية الاثنا عشرية، وذلك لأن العامة اختلط عليهم الأمر في بيان المصداق لهؤلاء الاثني عشر، فاتخذ كل منهم طريقاً مختلفاً عن الآخر، ولكن الأمر الذي اتفقوا عليه أنهم جعلوا الاثني عشر قد قضوا وماتوا، مع أن الروايات تقول: ما يزال الدين قائماً، وهذا يعني أنه بزوالهم يزول الدين، فهل يريد الله أن يزول دينه، بل إن المذاهب الأخرى ممن يتسمى بالشيعة لا يقفون على الاثنى عشر بل يتجاوز عدد أئمتهم هذا العدد بكثير.
كما نلفت النظر أيضاً إلى أن القول بهذا العدد يستلزم القول بالغيبة وضرورتها، إذ كيف يمكن المحافظة على التواجد الدائمي للإمامة مع انحصار العدد في اثني عشر إلا بالقول بأن أعمارهم كلهم كعمر نوح، وهذا ما لا نجده على أرض الواقع، وذلك لأن سنيّ وفاتهم معلومة مشهورة، وإن الإمام الحادي عشر قد استُشهد في سنة معروفة، فلم يبق إلا أن يطول عمر الثاني عشر منهم، وهذا هو الأمر الذي لا مفر منه.
بل إن كل من يدعي خلاف ذلك يكون مدّعياً لأمر يخالف بديهة العقل، أي يخالف التسلسل المنطقي للأدلة، ونحن نستطيع بذلك أن نغلق باب البحث بهذا المقدار ونكتفي بأن أي شبهة وإشكال يكون أمراً غير محتمل وغير منطقيّ، إذ أن ضرورة العقل حاكمة بوجود غيبة وطول عمر هذا الإمام الثاني عشر، وعلينا أن نؤمن بذلك الأمر الاعتقادي لأنه من سنة الله ومن حتمياته وليس أمراً اختيارياً، إلا أنا مع ذلك نكمل البحث، لأن الإنسان لا يقف تفكيره عند حد ويحاول دوماً أن يستفسر عن المغيّبات ويحاول استكشاف المجهول، ويحاول قراءة الروايات أكثر فأكثر، عَلّه يفك رموز عالم الوجود، فكما نرى الإنسان في عالم المادة يجول ويصول فيها يحاول استكشاف النظم والروابط والعلل التي تحكم عالم المادة والخصائص التي تميز كل مادة فيها ولا يقف عند حد، فإنا أيضاً في الاعتقاد نحاول أن لا نقف عند حد معين، بل نسعى لاستقراء أحكام هذه الغيبة ووظائف الإمام ووظائف المؤمنين فيها والارتباط بينهما وغيرها من الأمور الاعتقادية الخاصة بالغيبة.
ثم قد يأتي البعض ويدّعي بأن فكرة تحديد الأئمة باثني عشر لم تنشأ إلا في فترة متأخرة، أي في منتصف القرن الرابع الهجري على يد الشيخ الصدوق عليه الرحمة وإنّها لم تكن قبل ذلك. وهذه دعوى باطلة غير صحيحة، وذلك لأن هذا العدد ذُكر في كثير من كتب الأصول الروائية التي اُلّفت في عصر الأئمة كما تلاحظه في تفسير علي بن إبراهيم، وتفسير الجارودي، ومسائل علي بن جعفر، ومحاسن البرقي، ودعائم الإسلام، والأشعثيات، وقرب الإسناد وغيرها من الكتب التي طُبعت حديثاً محققة في متناول الباحثين والدارسين، بل إن البخاري وهو المعاصر للإمام الهادي والعسكري قد روى حديث الاثني عشر، أي أنه رواه قبل أن تكتمل فكرة الاثني عشر فعلاً.
ثانياً: أن هذه الفكرة تأثرت بمذاهب وأديان أخرى:
وهنا نرى القوم قد حاولوا مرة أخرى أن يُرجعوا هذه الفكرة إلى جذور أخرى غير حقيقية، فنرى البعض يحاول أن يرجع الأمر إلى الزردشت فيقول: (إن الايرانيين كانوا على دين الزردشت وكانوا ينتظرون ظهور (ساوشيانت) بن زردشت النبي حتى يصير العالم مهداً للخير، فعند ظهور الإسلام وفتح المسلمون العراق وايران سرى ذلك المعتقد إلى المسلمين. وينقل عن بعض المستشرقين كماسينيون ربط فكرة المهدي بالفرس.
بينما يقول البعض الآخر بإرجاعها إلى أصول يهودية، وأن منشأها يعود إلى الاسرائيليات التي نشرها بين المسلمين وهب بن منبه وكعب الاحبار من التنبؤ بأحداث ستقع في هذا العالم والتكهن بالأحداث المستقبلة، وبعضهم يُرجعها إلى المسيحية على أساس بقاء المسيح حياً إلى آخر الزمان.
والجواب عن مثل هذه الترهات هي الرجوع إلى مصادر الفكر الإسلامي واستقراء فكرة الإمام المهدي عليه السلام هل هي وليدة كتابات معينة؟ هل إن هذه الفكرة نشأت عند الشيعة الإمامية أم روتها بقية الفرق والمذاهب؟ هل إن الصحابة الذين رووا روايات الإمام المهدي عليه السلام هم مجموعة معينة؟ هل كتب القوم خالية عن ذكر المهدي عليه السلام؟ إن روايات الإمام المهدي عليه السلام بكونه هو الذي يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وإن ناقش الآخرون في انطباقها على الإمام محمد بن الحسن العسكري ـ كما سوف نذكر في العناوين الأخرى للشبهات ـ إلا أنهم لم ينكروا الفكرة تماماً وبالتالي لا يمكن إرجاع هذه الفكرة إلى تلك الأصول، وإذا ما رجعنا إلى رواياتهم نرى أن عدداً لا يستهان به من مؤلفي العامة قد أورد هذا الأمر منهم:(٢)
ـ أبو بكر ابن أبي خيثمة، المتوفى سنة ٢٧٩هـ. نعيم بن حماد المروزي المتوفى سنة ٢٨٨ هـ. أبو حسين ابن منادي المتوفى سنة ٣٣٦ هـ. أبو نعيم الاصفهاني المتوفّى سنة ٤٣٠هـ. أبو العلاء العطار الهمداني، المتوفّى سنة ٥٦٩هـ. عبد الغني المقدسي المتوفّى سنة ٦٠٠هـ. ابن عربي الأندلسي المتوفّى سنة ٦٣٨هـ. سعد الدين الحموي المتوفّى سنة ٦٥٠هـ. أبو عبد الله الكنجي الشافعي المتوفّى سنة ٦٥٨هـ. يوسف بن يحيى المقدسي المتوفّى سنة ٦٥٨هـ. ابن قيم الجوزية المتوفّى سنة ٦٨٥هـ. ابن كثير الدمشقي المتوفّى سنة ٧٧٤هـ. جلال الدين السيوطي المتوفّى سنة ٩١١هـ. شهاب الدين ابن حجر المكي المتوفّى سنة ٩٧٤هـ. علي بن حسام الدين المتقي الهندي المتوفّى سنة ٩٧٥هـ. نور الدين علي القاري الهروي المتوفّى سنة ١٠١٤هـ. محمد بن علي الشوكاني القاضي المتوفّى سنة ١٢٥٠هـ. أحمد بن صديق الغماري، المتوفّى سنة ١٣٨٠هـ. وهؤلاء أشهر المؤلفين في أخبار المهدي منذ قديم الأيام.
وهناك جماعة كبيرة من علماء أهل السنة يصرحون بتواتر حديث المهدي عليه السلام والأخبار الواردة حوله، وبصحة تلك الأحاديث في الأقل، ومنهم: الترمذي، صاحب الصحيح. محمد بن حسين الأبري، المتوفّى سنة ٣٦٣هـ. الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك. أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبرى. الفراء البغوي محيي السنة. ابن الأثير الجزري. جمال الدين المزي. شمس الدين الذهبي. نور الدين الهيثمي. ابن حجر العسقلاني. وجلال الدين السيوطي. إذن، لا يبقى مجال للمناقشة في أصل مسألة المهدي في هذه الأمة.
وقد اُسندت أحاديث الإمام المهدي عليه السلام إلى كثير من الصحابة وأضعافهم من التابعين، وإليك بعض من وقفنا عليه منهم بحسب وفياتهم مبتدئين بـ: فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (ت١١ هـ) ومعاذ بن جبل (ت١٨هـ)، وقتادة بن النعمان (ت٢٣هـ)، وعمر بن الخطاب (ت٢٣هـ)، وأبي ذر الغفاري (ت٣٢هـ)، وعبد الرحمن بن عوف (ت٣٢هـ)، وعبد الله بن مسعود (ت٣٢هـ)، والعباس بن عبد المطلب (ت٣٢هـ)، وكعب الأحبار (ت٣٢هـ)، وعثمان بن عفان (ت٣٥هـ)، وسلمان الفارسي (ت٣٦هـ)، وطلحة بن عبد الله (ت٣٦هـ)، وعمار بن ياسر (ت٣٧هـ)، والإمام علي عليه السلام (ت٤٠هـ)، وتميم الداري (ت٤٠هـ)، وزيد بن ثابت (ت٤٥هـ)، وحفصة بنت عمر بن الخطاب (ت ٤٥ هـ)، والإمام الحسن السبط عليه السلام (ت٥٠هـ)، وعبد الرحمن بن سمرة (ت٥٠هـ)، ومجمع بن جارية (تنحو ٥٠ هـ)، وعمران بن حصين (ت٥٢هـ)، وأبي أيوب الأنصاري (ت٥٢هـ)، وعائشة بنت أبي بكر (ت٥٨ هـ)، وأبي هريرة (ت٥٩هـ)، والإمام الحسين السبط الشهيد عليه السلام (ت٦١هـ)، وأم سلمة (ت ٦٢هـ)، وعبد الله بن عمر بن الخطاب (ت٦٥هـ)، وعبد الله بن عمرو بن العاص (ت٦٥هـ)، وعبد الله بن عباس (ت٦٨هـ)، وزيد بن أرقم (ت٦٨هـ)، وعوف بن مالك (ت٧٣هـ)، وأبي سعيد الخدري (ت٧٤هـ)، وجابر بن سمرة (ت٧٤هـ)، وجابر بن عبد الله الأنصاري (ت٧٨هـ)، وعبد الله بن جعفر الطيار (ت٨٠هـ)، وأبي أمامة الباهلي (ت٨١ هـ)، وبشر بن المنذر بن الجارود (ت ٨٣ هـ ـ وقيل: جده الجارود بن عمرو، ت٢٠هـ ـ)،وعبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي (ت٨٦هـ)، وسهل بن سعد الساعدي (ت٩١ هـ)، وأنس بن مالك (ت٩٣هـ)، وأبي الطفيل (ت١٠٠هـ)، وشهر بن حوشب (ت١٠٠ هـ)، إلى غير هؤلاء ممن لم أقف على تاريخ وفياتهم، كأم حبيبة، وأبي الجحاف، وأبي سلمى راعي إبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وابي ليلى، وأبي وائل، وحذيفة بن أسيد، وحذيفة بن اليمان، والحرث بن الربيع أبي قتادة، وزر بن عبد الله، وزرارة بن عبد الله، وعبد الله بن أبي أوفى، والعلاء، وعلقمة بن عبد الله، وعلي الهلالي، وقرة بن أياس.(٣)
إذن إرجاع أصل هذه الفكرة إلى آخرين أو إلى المذاهب الأخرى أمر غير صحيح، ومكابرة تبعوا فيها المستشرقين، ونشير أخيراً أنا لا ننكر أن فكرة الإمام المهدي عليه السلام موجودة في الأديان الأخرى، وأنها عُرضت تحت عنوان المخلص أو المنقذ، إلا أن معالمها قد توضحت أكثر في ظل الإسلام، ومن هنا كانت أكثر تأثيراً وتجذراً في النفوس.
ثالثاً: نسبة هذا الاعتقاد إلى دوافع ومآرب خاصة:
يُرجع بعض المستشرقين هذه الدوافع إلى دوافع سياسية وذلك بهدف التغلب والسيطرة، فقد اتخذ منها المختار الثقفي شعاراً للحركة التي قام بها ضد الأمويين، وكذلك سائر حركات التمرد في الدولة الأموية والعباسية مما اصطبغ بصبغة العلويين. حيث كسبوا لأنفسهم شعبية بوصفهم ممثلين لفكرة المهدي وأوقعوا أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي في الاضطراب والحروب.
بل العباسيون استعانوا بفكرة المهدي عليه السلام في الدعوة لأنفسهم بالخلافة، فنرى المسعودي يشير إلى أن الخليفة العباسي الأول الملقّب بالسفاح كان يلقّب بالمهدي.
ويرجع البعض الدوافع إلى دوافع اجتماعية واقتصادية، باعتبار أن المهدي يظهر ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، من خلال الجور في الدين والجور في الاقتصاد باستئثار فئة قليلة بالأموال والخيرات وبقاء الجميع في جو من الحرمان والفقر. ولذا سرى الاعتقاد بأن عمر بن عبد العزيز هو المهدي، وأن بني عبد المطلب وبني عبد شمس قد توزّعا النبوة والمهدية.
والجواب عن هذا كله وغيره: أن هذه التحليلات تجتمع لتثبت أمراً مهماً واحداً هو وجود حقيقة اسمها المهدي، وهذه الحقيقة وهذا الاعتقاد أمر غير مختص بالامامية الاثني عشرية، بل أمر تتفق عليه جميع المذاهب لأنه ثبت عن الرسول الأكرم ذلك بما لا ريب فيه ولا يحدوه الشك، وبالتالي فإن الجميع يحاول اثبات أحقيّته من خلال الارتباط بهذه الفكرة، والسياسيون يحاولون استغلال هذه الحالة العاطفية الايمانية لدى الناس من خلال التلبّس بهذا العنوان. إن ما ذكروه من الدوافع لا يعني خطأ الفكرة بل يؤكد صوابها وصحتها على صعيد الإسلام وثبوتها ثبوتاً يقينياً، إلا أن عدم صحة الانطباق والتلاعب الذي يقوم به القائمون على الأمور هو الذي يجعل الناس يقعون في حيص وبيص.
العنوان الثاني: شبهات حول شخص الإمام عليه السلام:
أي الشبهات التي طرحت حول شخصه عليه السلام وأنه محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
وترتكز الشبهات حول ولادته وما هو الدليل على ولادته، وهل يمكن إخفاء ميلاده؟
أولاً: اختلاف الروايات في تشخيصه:
فيشير البعض إلى وجود اختلاف بين الروايات في تشخيصه، فبعضها يشير إلى أنه من ولد العباس، وأخرى تشير إلى أنه من ولد الحسن. والبعض أشار إلى أن اختلاف السنة في الروايات من الأمور التي تدعو الباحث إلى التريث في الاعتقاد بهذه الفكرة.
والجواب عن مثل هذه الشبهات واضح،إذ أن مسألة الاختلاف في النصوص ليس بعزيز في كثير من الأمور، فكيف بهذا الأمر الاعتقادي المهم.
وهذا الاختلاف تارة يمكن حله والجمع بين الروايات، كما في الروايات التي تشير إلى أنه من بني هاشم، وبعضها أنه من بني عبد المطلب وبعضها أنه من أبناء أبي طالب وبعضها أنه من أبناء الحسين، فإن هذه الأخبار كلها يمكن الجمع بينها ولا تعارض بينها، وقد جمعت هذه الطوائف من الأحاديث في حديث واحد وهو الحديث المروي عن قتادة، قال: قلت لسعيد بن المسيب: المهدي حق هو؟ قال: نعم، قال: قلت: ممن هو؟ قال: من قريش، قلت: من أي قريش؟ قال: من بني هاشم، قلت: من أي بني هاشم؟ قال: من بني عبد المطلب، قلت: من أي بني عبد المطلب؟ قال: من ولد فاطمة. وقد أخرج هذا الحديث ابن المنادي عن سعيد بن المسيب مسنداً إلى أم سلمة، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، باختلاف يسير، وما ورد من المهدي حق وهو من ولد فاطمة في أكثر من أربعة وستين مصدراً من مصادر أهل السنة، وما يقارب من ستة عشر مصدراً من مصادر الإمامية.
نعم ما ورد من أنه من ولد العباس، أو من ولد الحسن يمكن أن تعارض هذه الروايات، لكن هذا على فرض صحتها وتمامية سندها ودلالتها، ومع صحتها فإن الخبر الواحد الصحيح لا يقف بوجه الخبر المتواتر المروي بطرق عدّة، ولا يبعد كونها من تحريفات الأمويين والعباسيين لصرف الأمر عن أهله كما هو دأبهم في تحريف الأحاديث، وقد تناول علماء الإمامية هذه الأحاديث بالتحقيق والنقد، فعلى سبيل المثال ما ذكره السيد الميلاني وهكذا السيد صدر الدين الصدر في ردهما الرواية التي تنص على أن المهدي من ولد الحسن عليه السلام وبيان كذبها من أن (سند الرواية ينتهي إلى أبي داود ولم يذكره أحد غيره، وأن النقل عنه مختلف، حيث أنه تارة ينقلها من ولد الحسين وأخرى من ولد الحسن، وانقطاع الحديث لأن من رواه عن علي عليه السلام هو أبو اسحاق والمراد منه السبيعي وهو ممن لم تثبت له رواية واحدة سماعاً عن أمير المؤمنين عليه السلام ، وكان له من العمر عند شهادته عليه السلام سبع سنين).(٤)
بل إذا لاحظنا ما أورده الشيخ الصافي في كتابه القيم منتخب الأثر من روايات تصل إلى المئات والتي تشير إلى أنه تارة من ولد علي، وأخرى أنه من ولد فاطمة، وثالثة أنه من ولد الحسين، ورابعة انه من ولد زين العابدين، وخامسة أنه من ولد الباقر، وسادسة أنه من ولد الصادق، وسابعة أنه من ولد الكاظم، وثامنة أنه من ولد الرضا، وتاسعة أنه من ولد الهادي، وعاشرة أنه من ولد الحسن العسكري صلوات الله عليهم أجمعين، واختلاف ألسنة هذه الروايات لا يدع مجالاً للشك حينئذ في كون المهدي المنتظر هو محمد بن الحسن عليهم السلام ويرد كل قول يخالفه.
ومن الشبهات التي أثيرت اختلاف الشيعة أنفسهم حول شخص الإمام المهدي عليه السلام ، فقال ابن تيمية (اختلفوا في المنتظر على أقوال: منهم من يقول ببقاء جعفر بن محمد، ومنهم من يقول ببقاء ابنه موسى بن جعفر، ومنهم من يقول ببقاء عبد الله بن معاوية، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن عبد الله بن الحسن، ومنهم من يقول ببقاء محمد بن الحنفية) ثم يتساءل (فأي الأقوال مأخوذ من المعصوم؟) منهاج السنة ٤: ١٧.
وهذا من عجيب القول أن يصدر من شخص يدعي العلم مثل ابن تيمية، إذ أن المدعيات كثيرة ولا نأخذ بكل هذه المدعيات، بل علينا محاكمة الرأي الذي يدّعي الصحة ويقيم الأدلة على صحته وهو رأي الإمامية الاثنى عشر، ومن الواضح خطل هذه الآراء وزيفها، إذ أن مَن يدّعون بقاءه قد مات وشهد على جنازته ودفنه العديد، ووردت في ذلك كل كتب التاريخ، فكيف يُدّعى أنه هو المهدي الذي يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً. أما بالنسبة للإمام المهدي محمد بن الحسن عليه السلام فلا توجد رواية ولا دعوى واحدة تشير إلى وفاته ودفنه، فهناك قولان فقط إما ان يقال أنه لم يولد بعد، وهو ما ذهبت إليه العامة، أو أنه قد وُلد وما زال حياً، ولذا نلاحظ أنهم عندما يريدون التشكيك وعدم الاعتقاد به يشككون في ولادته وأصل وجوده، لا أنه مات كما هو في الأسماء التي ذكرت.
الهوامش:
ــــــــــــــــــــــ
(١) من موسوعة الرأي الآخر.
(٢) الإمام المهدي عليه السلام ـ السيد علي الميلاني ص ١٠، وكذلك يرجع للمؤلف في شرح منهاج الكرامة: ٢٤٢.
(٣) ما اختلف وتعارض من أحاديث المهدي عليه السلام ـ السيد ثامر العميدي: ص٧.
(٤) المعجم الموضوعي لأحاديث الإمام المهدي عليه السلام ، الشيخ علي الكوراني: ٢٢٠.