اللهم هذه بيعة له في عنقي إلى يوم القيامة(١)
بقلم الشيخ أحمد الخزعلي/ الحوزة العلمية ـ النجف الأشرف
كلٌ منا مؤمن بوجود الإمام الحجة عجل الله فرجه وبأنه هو الغائب الذي لابد ان يأتي يومٌ يظهر فيه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، فيتحتم علينا تجاه هذا الإمام مجموعة واجبات وآداب منها الشرعية، ومنها الأخلاقية، ومنها العقائدية.
وعقيدة الانتظار التي نشأنا عليها هي التي تفرض علينا هذه الآداب التي يكون الملتزم بها مصداقاً للعبد المنتظر لمولاه، بينما قد يؤدي التهاون أو الاخلال ببعضها إلى ابتعاد التابع عن امامه بل قد يتحول ـ نستجير بالله ـ إلى عدوٍ للإمام فينقله حينها من لوح المناصرين إلى لوح المعادين وهو في غفلة عن هذا وهو يحسب انه يحسن صنعاً.
فعلى المؤمن ان يتحرى عن هذه الآداب ويطلبها من مظانها الأمينة وهي بحمد الله متوفرة منتشرة لا تعز على طالبها.
ومن أهم آداب الإنتظار هو عقد البيعة مع الإمام الحجة عجل الله فرجه وتكرارها بين الحين والآخر ومراجعة النفس لتقييم درجة الإلتزام بها فقد ورد عن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم (من خلع يده من طاعة الإمام جاء يوم القيامة لا حجة له عند الله ومن مات ليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية).(٢)
فما معنى البيعة؟ وهل للبيعة حقيقة خلف المعنى المتعارف لدينا؟
وكيف نبايع اماماً غائباً؟
وما أثر البيعة في رقي الإنسان وكماله الروحي؟
وهل لها أثرٌ في جعل الإنسان من أنصار الإمام عجل الله فرجه ؟
وماذا يجب على المبايع بعد البيعة؟
هذه الأسئلة وأمثالها التي تشغل أذهان المخلصين ستكون محور حديثنا في هذه الأسطر القليلة إن شاء الله تعالى.
البيعة: هي الصفقة على إيجاب البيع وعلى المبايعة والطاعة، والبيعة: المبايعة والطاعة. وقد تبايعوا على الأمر: كقولك صفقوا عليه، وبايعه عليه مبايعة: عاهده، وبايعته من البيع والبيعة جميعاً، والتبايع مثله وفي الحديث انه قال: ألا تبايعوني على الإسلام؟ هو عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره وقد تكرر ذكرها في الحديث.(٣)
وفي تاج العروس نجد كذلك ان المبايعة والتبايع: عبارة عن المعاقدة والمعاهدة كأن كل واحد منهما باع ما عنده من صاحبه وأعطاه خالصة نفسه ودخيلة أمره.(٤)
وقد أدرج الراغب معنى البيعة والمبايعة ضمن مادة بيع خلال بيانه لها حيث قال: وبايع السلطان إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له ويقال لذلك بيعة ومبايعة.(٥)
والمستفاد مما مر ومن مراجعة كتب اللغة العربية الأخرى ان معنى البيعة مأخوذ من معنى البيع المعروف عندا وهذا يفيدنا في معرفة ان العربي عندما يسمع بلفظ البيعة ينتقل ذهنه إلى نحوٍ من انحاء البيع خاص بالأنفس، فإذا بايع شخصٌ شخصاً آخر فُهِمَ ان الأول قد عاقد وعاهد الثاني فاعطاه خالصة نفسه وطاعته ودخيلة أمره. وهذا ما بينه القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالإِْنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).(٦)
فتكون البيعة للإمام الحجة عجل الله فرجه بهذا المعنى، وهذا يفتح لنا باباً لمعرفة حقيقة البيعة التي نبحث ونسأل عنها فلا بأس بمراجعة هذا الأمر لتنجلي لنا هذه الحقيقة ونعطي كل ذي حقٍ حقه.
بيعة الغائب:
ربما يسأل أحدهم كيف نبايع إماماً غائباً لم نره ولا نعرف أين هو؟
وجواب ذلك بأمور منها:
الأول: إن حقيقة البيعة ـ كما عرفت ـ ليست هي قول اني بايعتك فقط بل إن أصلها ولبها هو الاعتقاد القلبي بوجوب طاعة الإمام والعمل وفقاً لهذا الإعتقاد.
الثاني: اننا نعتقد جازمين أن الإمام الحجة عجل الله فرجه موجود حاضرٌ معنا ليس بغائب إلا عن الأنظار، فما المانع اذاً من مبايعته عجل الله فرجه ، فلا ضير عليك إن بايعت إمامك وكأنك تراه، فتستقبل القبلة وتقول مخاطباً الإمام: إني بايعتك على الطاعة...الخ، ولا يخفى عليك أن البيعة تكون أكمل إذا جئته عجل الله فرجه وقد ترسخ في عقلك وقلبك أنه معك يسمعك ويراك، وقد وردت أحاديث تحث على هذا العمل كدعاء العهد ذلك الدعاء ذو المضامين العالية والآثار الحسنة في تهذيب النفس ورقيها، وما أجمل بيان الإمام الصادق عليه السلام لفضل هذا الدعاء بقوله: (من دعا إلى الله أربعين صباحاً بهذا العهد كان من أنصار قائمنا، فإن مات قبله أخرجه الله تعالى من قبره وأعطاه بكل كلمة ألف حسنة ومحا عنه ألف سيئة).(٧)
وكزيارة (اللهم بلغ مولاي صاحب الزمان صلوات الله عليه عن جميع... الخ).(٨) التي نزور بها الإمام الحجة عجل الله فرجه كل صباح والتي نبايع فيها الإمام عجل الله فرجه بقولنا: (اللهم هذه بيعة له في عنقي إلى يوم القيامة) ثم نصافحه بتصفيقنا باليد اليمنى على اليسرى كتصفيق البيعة. وما يدريك لعل من وقفاتك مع الإمام الحجة عجل الله فرجه وأنت تبايعه تجعل اسمك مع أنصاره وجنوده الذابين عنه وأوليائه المقربين.
ثم ماذا؟:
وهنا نسأل عما ينبغي على المبايع بعد البيعة؟
إن البيعة ـ كما تبين ـ هي عقد وعهد كأي عقد وعهد آخر فينبغي الالتزام به والإيفاء بمضامينه، فالذي يريد ان يحقق البيعة مع الإمام الحجة عجل الله فرجه لابد له ان يعرف انه بالبيعة قد باع نفسه وماله وولده وكل ما تحت يده للإمام وجعل الإمام أولى منه في كل ذلك وانه عبد مطيع لا يعصي له أمراً وان كان هذا الأمر لا يروق للتابع، فإننا نقول في زيارة الإمام الحجة عجل الله فرجه: (... فابذل نفسي ومالي وولدي وجميع ما خوّلني ربي بين يديك والتصرف بين أمرك ونهيك).(٩) وبهذا نعلم أن حق الإمام علينا لا ينتهي بمجرد البيعة بل على العكس فإن مهام العبد تبدأ بالبيعة ليعمل وفقاً لما عاهد وعاقد عليه مولاه. وأهم تلك المهام ان تعتقد مؤمناً أن من بايعت هو إمام معصوم مفروض الطاعة، لا كمال لدينك إلا بطاعته، ولا تمام لنعمة الله عليك إلا باتباعه، ثم تسعى جاداً مخلصاً لبذل الطاعة له بكل وسعك بتنفيذ أوامره وفعل كل ما يحب وترك ما يكره ... وهل يحب الإمام إلا طاعة الله وهل يكره غير معصيته سبحانه وتعالى.
ولا نفع من البيعة إن تلاها عصيان الإمام بل تكون البيعة حينها حجة بيد الإمام يحتج بها عليك يوم القيامة، وما أسوأ حال العبد إذا كان خصمه إمام زمانه وبهذه الحجة البالغة.
رواة الحديث:
وهنا يرد سؤالٌ طالما طرح في أوساطنا فتسببت الإجابة الخاطئة عنه في إنحراف الكثيرين، مفاده: إننا في عصر كثير الأحداث غريب الفتن، فكيف نعرف رأي الإمام الحجة عجل الله فرجه ، وأوامره لنا، وماذا يريد منا حيال هذه الأحداث؟
لقد أجاب الإمام عجل الله فرجه عن هذا السؤال قبل ان يُسال فأرانا الطريق قبل أن نضل، فإن عِلْم الإمام بما سيكون وبالفتن التي ستحل بالأمة وبتحير الأتباع من بعده من جهة، ومسؤوليته التي تحملها تجاه ذلك كإمام من جهة ثانية، تحتم عليه عجل الله فرجه تعيين القائد الذي يرجعون إليه فيحتمون به من التفرق والضلال، ولقد فعل صلوات الله عليه ذلك فعين رواة الحديث وهم المجتهدون العدول نواباً عامين عنه اذ قال عجل الله فرجه (وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا؛ فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)(١٠) فجعلهم الواسطة بيننا وبينه بل جعلهم الحجة علينا وعلق طاعته بطاعتهم ورضاه برضاهم. فإن حدث حادث صغيراً كان أم كبيراً، خاصاً كان أم عاماً فلا نعرف رأي الإمام فيه الا بالرجوع إلى العلماء المجتهدين العدول، ومعرفة فتاواهم وأوامرهم ثم الأخذ بها والسير طبقاً لها وان لم تكن آراؤهم تلك ملائمة لأذواقنا ورغباتنا النفسية.
إن حصر المرجعية في عصر الغيبة الكبرى برواة الحديث كان بأمر الإمام الحجة بنفسه ومن هنا اكتسب مجتهدونا قدسية خاصة لدى الشيعة كافة وآمن كل منا بانحصار الهداية باتباعهم والتمسك بمنهاجهم، فلا يغرك قول من قال إني اتبع الحجة عجل الله فرجه مباشرةً من غير وساطة مرجع ما، أو أمثال هذا القول، فقولهم ضلال وعملهم هباء، قد حادوا عن الصراط المستقيم فكان مثلهم كمثل إبليس حينما أمره الله سبحانه وتعالى بالسجود لآدم فرفض وأراد السجود لله بدلاً عن ذلك فلم يقبل الله منه إلا السجود لآدم، فأبى واستكبر وكان أول الكافرين.
إن الإمام الحجة عجل الله فرجه بتنصيبه لرواة الحديث مراجع لنا قد بيّن ان من تجاوز هؤلاء فهو عاصٍ للإمام غير متبع له وان ادعى أو اعتقد غير ذلك، فلا طريق اذاً للإمام الحجة إلا مراجع الدين الذين عينهم الإمام بصفاتهم قائلاً: (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه).(١١) وبهذا يتم الفهم الصحيح للبيعة فإن بيعتنا للإمام الحجة عجل الله فرجه تكون ناقصة إن لم نتبع من أمَرَنا الإمام بإتباعهم وتقليدهم، ونكون قد نكثنا البيعة إذا خالفناهم أو اتبعنا مخالفيهم. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا صراطه المستقيم وان يجنبنا مضلات الفتن انه على كل شيء قدير.
الهوامش
(١) بحار الأنوار، ج.
(٢) المبسوط للشيخ الطوسي، ج٧. الينابيع الفقهية ج ٣١، ص ١٤٩.
(٣) لسان العرب، ج٨، مادة بيع.
(٤) تاج العروس، مادة بيع.
(٥) المفردات، مادة بيع.
(٦) سورة التوبة: الآية ١١١.
(٧) بحار الأنوار للعلامة المجلسي، ج ٥٣، ص ٩٥.
(٨) المزار، محمد بن المشهدي، ص ٦٦٢. بحار الأنوار، ح٩٩، ص: ١١٠.
(٩) المزار، ت: محمد بن المشهدي ص ٥٨٨، بحار الأنوار: ح ٩٩، ص ١١٨، المصباح للكفعمي: ص٤٩٦.
(١٠) بحار الأنوار: ج٢، ص ٩٠؛ كمال الدين وتمام النعمة للشيخ الصدوق: ص ٤٨٤.
(١١) وسائل الشيعة، ج ٢٧، ص١٣١؛ القضاء والشهادات للشيخ الأنصاري: ص ٢٤١؛ الاحتجاج: ج٢، ص ٢٦٣.