حتمية دولة الحق
الشيخ كاظم القره غولي
إنّ المشكلة لا تكمن في أصل بيان حتمية دولة الحق، وأنها من الوعد الإلهي الذي لا يمكن أنْ يخلف, بل لا بدّ أنْ يتحقق في صفحة الوجود, وكيف نتعقّل ذلك والأنبياء عليهم السلام على مر العصور قد بشّروا بهذه الدولة التي تشكل أمنية لكل طلاب الحق من أتباع الشرائع؟ بل هي أمنية طلاب العدل ولو لم يكونوا من أتباع الديانات السماوية, ومن هنا صارت موردا للبشارة, وكيف يبشر الإنسان بأمر لا يتمناه ولا يرجو حصوله؟.
وقد بشّر بعض أصحاب المذاهب الدينية الباطلة بذلك كالبراهماتية, بل بشّر به بعض أصحاب المذاهب الفكرية غير الدينية, بل المنكر للدين كما في الماركسية, وإنْ اختلفت الرؤية في التفاصيل, وأنّ المنقذ هو شخص يأخذ بأيدي الناس لنشر راية العدل و المساواة وإزهاق الباطل, أو أنّ المنقذ هو نفس المجتمع الذي سيصل إلى حالة من التكامل، فيخرج بذلك مسير المادة من تصارع التضاد والديالكتيك بين الموجودات إلى حالة النضج في الإدراك، ليسعى في جانب العطاء إلى العمل بقدر ما يستطيع، وفي جانب النفع إلى الاكتفاء بمقدار الحاجة.
وكيف كان فأصل بيان الحتمية أمر في غاية الأهمية، ولابدّ من تسليط الضوء عليه بما يناسب أهميته في نفسه, حيث انه يمثل المفصل الأخير لحركة أبناء هذا النوع على الأرض, وهو ليس مفصلاً مجرداً عن باقي أجزاء المسيرة, بل هو بالنسبة لها كثمرة لشجرة زرعها زارعها بعد أنْ أعدّ أرضها، ورفع الموانع من نموها ونضجها. والذي ينظر إلى نشأة الدنيا لبني الإنسان بشكلها الكلي قد ينظر إلى قيام الدولة الحق، غاية لذاك العناء ومواجهة التحديات وتحمل الصعوبات والإقدام على التضحيات الجسام فيها لو دعت الحاجة. ولا شك أنّ النظر إلى هذا الأمر بشكل كلّي بعد كسر الآفاق الضيقة التي قد تحكم الإنسان له آثاره على الفرد. ومن هنا انعكس ذلك في ساحة بيان المعصومين عليهم السلام بنحو قد نجزم أنّه مختلف عن الزخم الذي كان من الأنبياء الآخرين غير النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. فمشروع دولة الحق ستكون أدوات تنفيذه أتباع هذا الدين الحنيف, والمسألة ليست نظرية، لا مقاربة فيها لواقع التكليف، كما هو الحال بالنسبة لأتباع الديانات السابقة في ظرف فعليتها و قبل نسخها, بل هي مسألة عملية لأتباع هذه الديانة, ومن هنا كثرت الروايات التي وردت عنهم عليهم السلام في بيان ما يرجع لهذا الأمر من مقدمات ونتائج, وما ذاك إلاّ لأهميته الكبيرة.
وكيف كان فقد انصبّ الكثير من الجهود على البحث في العلامات التي تسبق الظهور, وهي إنْ كانت نافعة بما أنها ترسم للناس خريطة الأحداث قبل الظهور، فيعرف الإنسان المحدّد الزماني, بل وربما المكاني للحدث من خلال ذلك ومن خلال التطبيق على المواقع إنْ كان ذلك التطبيق موضوعياً, لكن التضخيم في طرحها وبيان تفاصيلها كان في كثير من الحالات على حساب البحث في المشروع المهدوي بملامحه، من المقدمات والواقع والنتائج، خصوصاً ما يطرح لعامة الناس. وهذا يكشف من خلل في ترتيب سلم الأولويات لكثير من المتحدثين والباحثين في هذا الموضوع. مما انعكس على عامة الناس، حيث نرى اهتمام جلهم بالعلامات أكثر بكثير من اهتمامهم بوعي المشروع المهدوي فكرياً والوعي بالتكاليف المرتبطة به، والمسؤولية المرتبطة بالمساهمة في صياغة الواقع من خلال تهيئة المقدمات.
إنّ انتظار دولة الحق ورفع راية الإسلام على كل أصقاع الأرض، وإنْ كان يمثل مرحلة مهمة في مسيرة البشرية, وقد بلغت أهميتها حدا بشر بها الأنبياء عليهم السلام على مدى آلاف السنين. لكنها ليست كل شيء في الفكر الديني, نعم لها انعكاس كبير على الأفراد من جهة المنع عن حصول اليأس، عندما تقرأ الوقائع بالنتائج المستندة إلى مبررات يتصور أنها موضوعية، دون ملاحظة حاكمية الله تعالى المطلقة على الكون ووعده بالنصر وظهور الأمر. فالنصر لا تسد أبوابه ولا ينقطع سبيله, كونه من الحتميات الدينية. فطرح هذه المسألة بين عامة الناس يمنع من حصول حالة اليأس التي تدعو للاستسلام للظروف وإعلان العجز أو الاندفاع. والتعبد منفرداً أي الذي لم يكن مدعوماً بمؤشرات على تحقيق الأهداف لا يجدي عند أكثر الناس. والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ, ففي واقعة أحد مع كون جذوة الإسلام حديثة الاتقاد في نفوس المسلمين, ومع تذوق المسلمين طعم النصر على قريش التي كانت تمثل عزا لم يختلط بذل, ولم يمر على ذلك وقت طويل, و مع كون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين ظهرانيهم إلاّ أنّهم بمجرد أنْ استشهد حمزة، وهجم عليهم خالد بن الوليد من الخلف فرّوا ولم يلووا على أحد، حتى مع دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم بالرجوع. والبعض لم يرجع إلاّ بعد ثلاثة أيام في وقت لم يشك أحد فيهم أنّ الثبات مطلوب منه.
هذا بالنسبة إلى الأثر الذي يتركه واقع النظر على الناس. ولا نريد أنْ نقول: إنّ ذلك التفكير في محله, فإنّ الشواهد القرآنية تجمع على أن النصر هبة من الله تعالى، في الوقت الذي يكون الانتصار في نظر الناس بعيداً جداً. لعل من وجوه الحكمة في ذلك أن لا ينسب النصر إلى غير الحق تعالى. ولا فرق في ذلك بين النصر في المعركة أو في الاستدلال, كما في إلقاء إبراهيم عليه السلام في النار, وفي واقعة يوم الزينة لموسى عليه السلام, وفي واقعة شق البحر, وفي واقعة حنين, وغير ذلك كثير.
إذن فنحن لسنا ضد هذه المسائل ومناقشتها علمياً, وانما ضد إعطائها أكبر من حجمها والإكثار من تداولها على حساب مسائل دينية ومهدوية أخرى نرى أنها أكثر أهمية و أكبر أثراً على الأمة الإسلامية.