الزهراء أسوة المهدي... كيف؟
أحمد الجزائري
ان أي مبدأ يحمل الهموم الكبيرة للبشرية, ويراد له أن يطبق ويجسد ليكون سلوكاً في الحياة وممارسة من قبل الناس, لابد ان يكون مسبوقاً بتمهيد فكري وثورة معرفية, وهذه سنة إلهية وبشرية, ومعرفة تلك المباديء التي تنهض بالفكر البشري وتصبح فيما بعد سلوكاً يجسد من قبل المؤمنين بها, لابد أن تنطلق مقرونة بالذات التي تفنى من أجل ذلك المبدأ ليكون فناؤها المحرك والاسوة للآخرين على طول خط المسيرة للنداء بإحياء هذا المبدأ والتضحية من اجله.
ان الفرق بين المبدأ المجرد وبين المبدأ المقرون بالواقع وبالذات والشخص يقرب من الفرق بين الخيال والواقع, فمهما كان المبدأ المجرد حاملا لثقافة وتطلع يبقى حبيس الذهن والوجدان, ما لم تنهض به الذوات التي تنقله من حالة التجرد والمثالية إلى حالة الواقع والسلوك.
وأهم مبدأ تنشد البشرية تحقيقه, وتعيشه في مخيلتها على طول خط الزمن هو مبدأ العدل وتجسيد القسط والسير على الحق, وهذا المبدأ الالهي والحلم البشري تجسد في فترات من الزمن الى حد ما, والحتمية قاضية بأنه سيتجسد ويكون الواقع الذي يعاش في يوم ما, وهذه لابدية وحتمية كونية لا محيص عنها.
ولكي يسير هذا المبدأ ويستمر في اختراق الزمن لابد له من تمهيد.
ولكي يمهد له لابد أن يكون الممهد له بالمكانة التي تؤهله, وأن يحمل في ذاته ما لا يحمله الغير, وأن يجسد في نفسه ما لا يجسده الغير ليكون اسوة لمن سيُتحقق المبدأ الكبير على يديه.
وهذا ما حصل في قضية زهراء المهدي عليهما السلام.
فقد دلت الآثار على ان اكبر مبدأ نشدته وتنشده البشرية وستعيشه هو ذاك المبدأ الذي سيتحقق على يد خاتم الاوصياء عليه السلام.
وقد دلت الآثار على أن اسوة هذا المخلص وقدوته في تحقيق هذا المبدأ هي الزهراء فاطمة عليها السلام.
فما هو السر وراء اتخاذ الزهراء عليها السلام من المهدي عليه السلام اسوة وقدوة في تحقيق هذا المبدأ؟
وما أجمل العبارة التي نقلت عن قيّم هذا المبدأ إذ يقول عليه السلام: (وفي ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله لي اسوة حسنة), إذ جمع في هذه الكلمة القصيرة المبدأ والمحرك والمنتهى.
فلكي يُحق الحق الذي نزل به الأمينُ _دستوراً للبشرية _ على خاتم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم اتخذ المهديُ عليه السلام هذا الدستور منهاجاً لا يحاد عنه, واتخذ الزهراءَ عليها السلام قدوة له في السير على هذا المنهج حتى يصل الى المنتهى في تحقيق غاية السماء وانشودة الارض؟.
فما هو السر وراء اتخاذ القائم عليه السلام بالمبدأ الحق فاطمة عليها السلام اسوة له؟
وهل يمكن استشراف ذلك من البعد المادي لفاطمة الزهراء عليها السلام, ومن خلال حركتها المحددة بزمن لم يتجاوز الثمانية عشر ربيعا؟
ام ان السر الكامن وراء ذلك شيء آخر؟
الذي نراه أن السر الذي استودع عند الزهراء عليها السلام وجعلت به مرآة وكاشفاً لقياس غضب الرب ورضاه, كما نص على ذلك المصدر الاول الذي يعتمد عليه من يخالف الزهراء عليها السلام واضحت به حجة على الحجج واسوة لخاتمهم.
هو تلك الحركة التي انحصرت بالفترة الزمنية بين شهادة خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم وشهادتها, حيث ان الزهراء عليها السلام تعلم ان المسلمين باجمعهم يعلمون, وان العالم كله سيعلم انها المقياس والبوصلة التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقياس الولاءات ولحفظ الرسول والرسالة بها, بل وان الآثار التأريخية دلتنا على ان هذه الحالة قد عاشها المسلمون بعد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لما انتهكوا حرمتها عليها السلام وتبين لهم انهم انتهكوا بهذا الانتهاك حرمة الاسلام بعد ان رجعوا الى انفسهم قليلاً فارادوا تصحيح المسار دون التنازل عما اقدموا عليه واقترفوه بحقها, الا انها عليها السلام ابت الا ان يكون التصحيح والعودة الى المسار إلا بارجاع الحق الى نصابه.
فكانت الزهراء عليها السلام بهذه الخطوة حافظةً للاسلام وواضعةً الامور في نصابها, دون ان يبرز منها في هذا الجانب ادنى مجاملة او مداهنة على حساب الحق وتحقيق اهداف السماء, وبغض النظر عن الزمن الذي ستحقق فيه تلك الاهداف.
فكانت عليها السلام بحق بهذه الحركة التي قامت بها اسوة للحجج الاسوة للخلق, اذ لولا هذه الحركة لما امكن لعمود الحق ان يبرز نوره ولما امكن لطريق الاستقامة ان يُرى له سالكاً.
هذا هو السر وراء اتخاذ الحجج الزهراءَ عليها السلام حجةً.
وهو السر وراء جعل الزهراء عليها السلام مقياساً لرضا الله وغضبه .
وهو السر وراء حفظ الدين وتجسيد المباديء الى يومنا هذا.
وهذا الامر ليس بخاف على احد, ودلائله التاريخية موضحة عند المخالف قبل الموالف.
لذلك يعتبر التأكيد عليه وترسيخه واحياؤه والمداومة على الحضور في المحافل التي بها تخلد ذكراه من اهم الشعائر والاسس التي لا ينبغي تخطيها, ولا ينبغي تركها, ولا ينبغي التساهل بها, ولا ينبغي القفز عليها مهادنة وكسباً لبعض النفوس والمصالح وتطييباً لبعض الخواطر كما يفعل بعض من يتموج بين امواج الحداثة والوحدة ( أي بين من يقول بالحداثة ولا يؤمن بالموروث التاريخي المتراكم, وبين من يريد التقريب مع الآخر على حساب المباديء).