التحولات الطوعية في حركة الظهور
منهج التحولات الطوعية في القرآن الكريم
د. علي الوردي
من المؤكد ان الأمام المهدي عليه السلام حين يظهر ويدعو الناس الى حركته ستستجيب لها غالبية أمم وشعوب الأرض طواعية، وكما ورد في دعاء الفرج (حتى تسكنه أرضك طوعا) أي بمحض إرادتها ومن غير ممارسة أي ضغط او إكراه من قبل الأمام عليه السلام (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)، وهذه الحركة تنساب في تكاملها بشكل تدريجي، تصاعدي ومتسلسل وفق سنن تغييرية محكمة.
إن منهج التحولات الطوعية للرسالات السماوية يمكن تشخيصه بشكل جلي من خلال تتبع حركة الأنبياء عليهم السلام في سعيهم الدؤوب لإقامة المجتمع الصالح، وبالرجوع إلى القرآن الكريم سنلاحظ ان هذه الحركة تتصف بما يلي:
١. الواقعية في المنطلقات: فان حركة كل نبي عليه السلام كانت تنطلق دائما من أرضية واقع القوم الذي يريد تغييره (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِنْهُمْ)، لأن الأنبياء عليهم السلام انما يبعثون من وسط ذلك الواقع الذي خبروا مواطن قوته وضعفه وتحسسوا آلام الناس وآمالهم فيه، فهم الأقدر على التأثير فيه لمعرفتهم الأسلوب الأمثل الذي يمكن مخاطبة الناس به (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ). لقد ذهب القرآن الى ابعد من ذلك حين اعتبر الحوار الذي كان يجري بين الأنبياء واقوامهم كما لو كان حوارا يجري داخل العائلة الواحدة بين اخ واخوته, اذ انه يعبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلفظة (اخاهم) ولعل في هذا إشارة لمدى قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قومه حينذاك، كما في قوله تعالى: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) ,)وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) , (وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا).
على ان هذا لا يعني انهم كانوا يقرون الواقع الموجود برمته، بل كانت المشتركات بين الطرفين - اي ما يتوافق مع قيم الرسل- هي نقطة الانطلاق، و بصورة تدريجية ما استطاعوا الى ذلك من سبيل (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) ، ولم يصادف ان الرسل قفزوا على الواقع يوما ما او أقحموا مجتمعاتهم فيما لم يألفوه, فقد روي عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قوله: ( امرنا معاشر الأنبياء ان نخاطب الناس على قدر عقولهم).
٢. العقلانية في الأساليب: وذلك باعتمادهم الدليل العقلي في دعوتهم لمحاورة الآخر، مهما كان هذا الآخر. ان استعدادهم لحوار الأخر يستبطن الاعتراف به ثم الانفتاح عليه ليكون مستعدا لحوارهم ( وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) .
ولأن دعوة الرسل دعوة حق ومن الحق, فهي لا تخاف الحوار بل تدعو إليه بكل قوة وتعتبره خطوة على طريق التغيير، لأنها تمتلك كل الأدلة والبراهين التي تثبت صدقها، وتتحدى الآخرين على ان يأتوا ببرهان واحد يثبت صدق دعواهم (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ).
كما انها تنبذ القوة و تكره إكراه الناس على القبول بما لا رغبة لهم في قبوله ( أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ).
وبعد ان تقيم عليهم الحجة تترك لهم الحرية في قبول الدعوة او البقاء على ما هم عليه ان هم ارادوا ذلك، بشرط ان لا يتعرضوا لحركة الأنبياء عليهم السلام. (وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ).
لقد كان الأنبياء عليهم السلام على علم تام بان فرض اي فكرة من الخارج على اي انسان لا تحدث تغييرا حقيقيا لان إرادة التغيير تنبع من داخل الإنسان دوما ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
٣. إنسانية في أهدافها: لان دعوة الأنبياء عليهم السلام تنسجم مع حقيقة الطبيعة الإنسانية المتمثلة بالعبودية المحضة لله الواحد الأحد- التي كانت تدعو لها على طول الخط - او ما يسمى بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).
لذا نرى ان هذه الدعوات لم تكن لتروج لعقائد وهمية او زائفة لا تمتلك اي رصيد من الحقيقة والواقع ولا تمت للإنسانية بأي صلة ( مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ.....). لتكره الناس على قبول ما لا ينسجم مع طبيعتهم، بل ما نجده هو العكس، اذ ان هذه القيم الإنسانية السامية ما جاءت الا لتضع المسيرة البشرية في موضعها المناسب التي ينسجم مع طبيعتها ثم لترتفع بها الى الدرجات التي يمكن ان تجد فيها الحياة الطيبة ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً). وتحصّنها من السقوط المحقق في الهاوية ( وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ....). الهاوية التي لا تؤدي الا إلى الضنك في العيش ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكً).
فحركة الأنبياء لا تريد اقحام الإنسان فيما لا ينسجم وطبيعته بل هي حركة تكاملية تسعى لبناء الإنسان وتوفير اجواء تكفل له الحرية التي تحفظ له إنسانيته وتحفظ له حرية اختيار الطريق الذي يريد بنفسه، وبالمقابل تحصنه من السقوط في أجواء الاستعباد الذي تصادر فيه إرادته ويفقد حريته.
٤.ربانية في غاياتها: من خلال المعجزة الربانية التي تعجز الناس عن الإتيان بمثلها والتي تأتي مع كل رسول عليه السلام لتعضد دعوته الحقة كناقة صالح وعصى موسى عليه السلام او القرآن الكريم (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا).
فضلا عن ان الأنبياء عليهم السلام ان لم نقل بثبوت الولاية التكوينية لهم في تصريف أمور العباد والبلاد، فهم على الأقل لو دعوا الله سبحانه في هلاك اعدائهم والنصر عليهم لما ردّت هذه الدعوة، وعليه فهم ابعد ما يكونون عن الحاجة لاستخدام السلاح لإجبار الناس على قبول دعوتهم. بل لعل علم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام بما فيهم الأمام المهدي عليه السلام بالسنن الإلهية التي تتحكم بحركة التاريخ او ما يسمى بالسنن التاريخية- ولعل إعجازهم يكمن في هذا العلم - لم تضطرهم يوما من الأيام بالدعوة على أقوامهم بالهلاك، وانما كانوا يسعون على الدوام لتوظيف هذه السنن لبلوغ الحياة الطيبة للناس بدعوتهم الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولما كان اهل البيت عليهم السلام هم عدل القرآن بنص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض) - بل هم القرآن الناطق فقد ورد عن امير المؤمنين عليه السلام : (هذا كتاب الله الصامت وانا كتاب الله الناطق).
وتأسيسا على ما تم انتزاعه من القرآن الكريم يمكننا القول ان حركة الأمام عليه السلام - باعتبارها امتداد لحركة الرسل- ينطبق عليها نفس المعايير السابقة، فيما يلي فهي: واقعية في منطلقاتها الموضوعية, عقلانية في أساليبها العصرية, إنسانية في أهدافها السامية, ربانية في غاياتها المعنوية. وكل هذه المعايير بعيدة كل البعد عما يفيد الأكراه او القهر.