أساس تعاليم الإسلام قائم على وجود الإمام عليه السلام
السيد محمد حسن الحسيني الطهراني/ صاحب كتاب معرفة الإمام
إنّ مبدأ إفاضة العلم هو قلب الإمام عليه السلام، الذي يفيض _بواسطة السيطرة على ملكوت الموجودات_ على كلّ موجود بقدر قابليّته واستعداده: (وَجَعَلْنَـاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا).
والهداية بأمر الله هي هداية أفراد البشر عن طريق ملكوتهم ونفوسهم.
ولذا يجب أنْ يكون في العالم وعلى الدوام إمامٌ حيّ، وقد استفدنا من الآية: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَـامِهِمْ).
إنّ الإمام موجود في كلّ زمان، يدعى بواسطته أفراد البشر واحداً فواحداً؛ وهذا أمر مسلّم وصحيح تستند عليه جميع أديان العالم ومذاهبه، ويعتمد عليه دين الإسلام الذي يعتبر تعيين الإمام للمجتمع من قبل الله، ويعرّفه بأنّه صاحب القلب، والمحيط بالملكوت والمعصوم عن الخطايا والمعاصي. كما انّ الشيعة قد استفادوا هذا الأمر على أساس تعاليم الإسلام، فقد جعلوا سيرتهم على واقع وحقيقة التعاليم الإسلاميّة، امّا أهل السنّة الذين لا يُراعون هذا الأمر، فإنّ أيديهم قاصرة عن إدراك منبع الحياة والعلم، وكما أُشير سابقاً، فإنّهم لا يستفيدون من الإسلام بالمعني الحقيقيّ.
وعلى هذا الأصل القائل بالحاجة إلى الإمام الحيّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الوجود المقدّس لأمير المؤمنين عليه السلام، فإنّ ذلك من أجل أنْ يصل جميع أفراد البشر بواسطة ذلك القلب الحيّ الواعي في عالم الجمع إلى الإفادة من حياتهم وعلومهم، وإلاّ فانّه إذا كفى مجرّد العمل بنداء (كفانا كتاب الله)، لزحف كلّ امرئ فانزوى في زاوية النفس وخرائبها المظلمة، ولما أمكنه أنْ يتخطّى نفسه وهواه إلى آخر عمره، وذلك لانّ الإمام هو الملقي للمعارف القرآنيّة إلى قلب الإنسان، وبدونه فإنّ الإنسان الأعمى المهووس بالشهوات، المنغمر في اللذّات، سيفسّر ويؤوّل الآيات القرآنيّة لخدمة أغراضه ونواياه، ومهما عمل فإنّ عمله لن يتعدّى دائرة ميوله ورغباته النفسانيّة.
ومثل هذا القرآن بدون الروح الحيّة العميقة الإدراك للإمام (لاَ يَزيدُهم مِنَ اللَهِ إلاَّ بُعْدًا).
تقول الشيعة إنّ أساس تعاليم الإسلام قائمة على الإمامة، ففي زمن رسول الله كان صلى الله عليه وآله وسلم هو الإمام، وكان يفيض المعارف على قلوب الأمّة بقلبه اليقظ منبع علوم (فَأَوْحَى إلى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى)، ثمّ جرى ذلك بعده؛ بواسطة الأئمة الأطهار الواحد بعد الآخر، وصولاً إلى حضرة بقيّة الله الأعظم عليه السلام؛ ريّ كلّ قلب بقدر سعته من قبل مراكز الحياة والمعرفة تلك.
أمّا الموضوع الآخر وهو التسليم والخضوع والاتّباع للإمام عليه السلام، الذي يُعدّ القلوب لتلقّي واكتساب المعارف والعلوم، فهذه الخصوصيّة موجودة لدى الشيعة، لذا يُشاهد أنّ الشيعة يفوقون العامّة بقدر ملحوظ في صفات المحبّة والوفاء والصفاء والإنفاق والإيثار وقضاء حوائج الناس وفي رقّة القلب والعاطفة ونظائرها من الصفات الحميدة، وهذا ناجم عن روح التسليم والخضوع مقابل معلّم البشريّة ومبدأ التعليم والتربية، سواءً كان الإمام عليه السلام حاضراً أو غائباً، لانّ تأثير وتأثّر الأرواح لا حاجة له كثيراً إلى الحضور، لانّه ليس مادّة ليشترط لتأثيرها في مادّة أخرى القُرب المكاني والتماسّ الخارجي، بل هو تأثير فعلية النفس الفعّالة في قابليّات النفوس المستعدّة.
ولانّ عالم الملكوت خارج عن الزمان والمكان، لذا يمكن أنْ نجد تأثير فعلية الآثار الحياتيّة للإمام عليه السلام في كلّ قلب، فإن كان الإمام في مشرق العالم وكان تابعه في المغرب، فإنّ قلب التابع مع ذلك سيحصل على استفادته، كما انّ الإنسان _على اثر محبّته لولده_ في ذكره دوماً، سواءً كان ولده قربه أو مسافراً بعيداً عنه، فصورة الولد لا تفارقه بل مطبوعة في قلبه. وكذلك اذا ما وجدت تجليّات الإمام عليه السلام في قلب المؤمن أينما كان ذلك المؤمن، فانّه سوف يستمدّ ماء الحياة من ذلك المعدن اللامتناهي اثر انعكاس الصورة الحقّة.
لذا فانّ الشيعة يفيدون _ولو في زمن الغيبة_ من ذلك المركز للعلم والمعرفة، بسبب التفاتهم الكامل إلى مصدر الخيرات والعلوم، مع انّه لاشك هناك ولا ريب في انّ أثر حضور الإمام عليه السلام وفوائده أكثر وأوفر؛ خلافاً لغير الشيعة الذين لا ترتبط قلوبهم بهذا المعدن، لذا فإنّ نفوسهم حائرة متردّدة ليس لها إلى الخروج عن ذواتها من سبيل.
يقول ابن أبي الحديد بعد أنْ يذكر قدراً من صفات أمير المؤمنين عليه السلام:
(وَقَدْ بَقِيَ هَذا الخُلُقُ مُتَوارَثاً مُتَنَاقَلاً فِي مُحِبّيهِ وَأوليائِهِ إلى الآن، كما بَقِيَ الجَفَاءُ والخُشونَةُ والوُعُورَةُ فِي الجَانبِ الآخرِ، ومَن لَهُ أَدْني مَعرفَةٌ بِأخلاقِ النَّاسِ وعَوَائِدِهِمْ يَعْرفُ ذَلكَ).
إنّ المعارف والعلوم الإلهيّة تجري في قلوب أتباع الإمام اثر اتّصال قلوبهم بقلبه، كما انّ السبب في أنّ للمؤمنين أنهاراً من ماء زلال في الجنّة يعود إلى تأثير ذلك الإتصّال القلبّي والإفادة من نبع فضائل الأئمة عليهم السلام. ونرى كثيراً في القرآن الكريم أنّ الله تعالى يعد المؤمنين جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَارُ مثل:
(إِنَّ اللَهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وعَمِلُوا الصَّـلِحَـاتِ جَنَّـاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاَنْهَـارُ).
و كما ذكرنا فإنّ الجنّة هي ظهور وبروز عالم نفس المؤمن في الآخرة، ولانّ نفس المؤمن قد نجت، بسبب الاطمئنان بالله وبالسكينة التي حصلت عليها، من حرارة ولسع اليأس والفشل، ومن طوفان خواطر الشيطان والاضطرابات الفكريّة والاخلاقيّة، فهم مسرورون فرحون في رحمة الله ومقام أمنه وأمانه، فقد عشقوا الله بنشاط ولذّة كاملين حتّى في أدقّ لحظات سكرات الموت، فهم في سكينة واطمئنان، لذا فعندما يظهر ملكوت الأشياء في الآخرة، فإنّ ملكوت نفس المؤمن سيكون بصورة جنّة متشابكة الأشجار، تشابكت فيها فروع الأعمال الصالحة وأوراقها، فألقت ظلالها على الأرض، فلا مجال هناك لأشعّة الشمس اللاهبة، ولا لطوفان الحوادث أو غبار الخيالات والخواطر الشيطانيّة.
سواءً اعتبرنا انّ الجنّة من جهة تجسّم أعمال المؤمن وظهور ملكوت النفس المؤمنة، أو بعنوان الجزاء المترتّب على العمل، فإنّ النتيجة ستكون واحدة. يشهد على هذا المعنى خطاب الله تعالى إلى آدم أبي البشر قبل وروده في هذه النشأة:
(فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى*إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فيها وَ لا تَعْرى*وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فيها وَ لا تَضْحى).
فقد خاطب الله آدم: انّ هذه الجنّة لا خواطر نفسانيّة فيها ولا اضطرابات للخيال والقوى الواهمة، هناك حيث لا تجوع ولا تعرى، ولا تظمأ ولا تضحى بحرارة الشمس، فالجوع والعُري والحرارة والانصهار كلّها من أثر تسلّط النفس الامّارة بالسوء على الإنسان، أمّا في الجنّة حيث قلب الإنسان مطمئنّ هادي، بعيد عن الخواطر والانفعالات، هناك حيث الاستقرار والاستراحة (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيْكٍ مُّقْتَدِرٍ).
فالذين يغادرون الدنيا إلى الله بالإيمان والأعمال الصالحة هم الذين يدخلون الجنّة ويتمتّعون فيها تحت ظلال الأشجار المتكاثفة.